الفناء
{افنَ عن الخلق بحكم الله عزّ وجلّ، وعن هواك بأمر الله تعالى، وعن إرادتك بفعل الله تعالى}
قال سيدي عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه : افنَ عن الخلق بحكم الله عزّ وجلّ، وعن هواك بأمر الله تعالى، وعن إرادتك بفعل الله تعالى، فحينئذ تصلح أن تكون وعاءً لعلم الله، فعلامة فنائك عن خلق الله تعالى انقطاعك عنهم، واليأس مما في أيديهم.
وعلامة فنائك عن إرادتك: أن لا تريد مع إرادة الله عز وجل سواه، بل يجري فعله فيك وأنت ساكن الجوارح، مطمئن الجنان، مشروح الصدر، عامر الباطن، غني عن الاشياء بخالقها، تقلبك يد القدرة، ويدعوك لسان الأزل، ويعلمك رب الملك، ويكسوك من نوره خُللا، وينزلك منازل من مغيب من أولي العلم الأول.
فتكون أبداً منكسرا لا تثبت فيك إرادة غير إرادة الله سبحانه، فحينئذ يضاف إليك التكوين وخرق العادات فيرى ذلك منك في ظاهر الحكم، وهو فعل الله عزّ وجل حقاً في العلم، وهذه نشأة أخرى. فإذا وجدت فيك إرادة كسرت لوجودك فيها إلى أن يبلغ الكتاب أجله فيحصل اللقاء.
فالفناء هو حد ومرد، وهو أن يبقى الله عزّ وجل وحده، كما كان قبل أن يخلق الخلق، وهذه حالة الفناء، فإذا مت عن الخلق قيل لك : رحمك الله وأماتك من هواك، وإذا مت عن هواك قيل لك : رحمك الله وأماتك عن إرادتك ومناك، وإذا مت عن الإرادة قيل لك: رحمك الله وأحياك، فحينئذ تحيا حياة لا موت بعدها، وتغنى غنى لا فقر بعده، وتعطى عطاء لا منع بعده، وتراح براحة لا شقاء بعدها، وتنعم بنعمة لا بؤس بعدها، وتعلم علماً لا جهل بعده، وتأمن أمناً لا خوف بعده، و تسعد فلا تشقى، وتعز لا تُذل، وتقرب فلا تبعد، وترفع فلا توضع، وتُعظم فلا تحقر، وتطهر فلا تدنس.
يا هذا كن مع الله تعالى كأن لا خَلق، ومع الخَلق كأن لا نَفس، فإذا كنت مع الله تعالى كَأَن لا خَلق وجَدت، وعن الكل فنيت، وإذا كنت مع الخلق كأن لا نفس عدلت واتقيت.
اترك الكل على باب خلوتك، وادخل وحدك، ترى مؤنسك في خلوتك بغير سؤال، وتشاهد ما وراء العيان، وتزول النفس ويأتي مكانها أمر الله وقربه، فإن جهلك علم، وبعدك قرب، وصحتك ذكر، ووحشتك أنس.
يا هذا : ما ثم إلا خلق وخالق، فإن اخترت الخالق عزّ وجل فقل:{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}.
يا هذا : المؤمن إذا عمل صالحاً انقلبت نفسه قلبًا، ثم انقلب قلبه سرًا، ثم انقلب السر فصار فناء، ثم انقلب الفناء وجوداً.
يا هذا : الفناء إعدام الخلق، وانقلاب طبعك إلى طبع الملائكة، ثم الفناء عن طبع الملائكة ولحوقك بالمنهاج الأول، فحينئذ ليسقيك ربك ما يسقيك، ويزرع فيك ما يزرع، إن أردت هذا فعليك بالإسلام، ثم الاستسلام، ثم العلم بالله عزّ وجلّ، ثم المعرفة به بعد الوجود به، فإذا كان وجودك به كان كلك له .
يا هذا الزهد عمل ساعة، والورع عمل ساعتين، والمعرفة عمل الأبد.