اعلم يا فقير أن الله تبارك وتعالى إنما أوجدك في العالم وجعلك وسطه إلا ليختبرك بالعوالم العلوية والسفلية كي يتضح أمرك ويتحقّق صدقك : هل أنت عبد الله حقيقة أو أنت عبد هواك، فإن كنت عبد الله أعرضت عن سواه بداية ونهاية، وإن كنت عبد الهوى أقبلت على ما سواه بداية ونهاية، إذ البداية مجلى النهاية. فمن كانت بدايته الفرار إلى الله بنعت هجران ما سواه كانت نهايته الوصول إلى الله بنعت شهوده في كل شيء. ومن كانت بدايته الفرار من الله بنعت انكبابه على هواه كانت نهايته البعد من الله بنعت غلظة الحجاب وتقوية العذاب كما جرت سنّته سبحانه مع خلقه. فمن أقبل على الله في بدايته أقبل الله عليه في نهايته، ومن أعرض عن الله في بدايته أعرض الله عنه في بدايته ونهايته. ولذلك يقول الله سبحانه في بعض الأحاديث القدسيّة :"أطعني في كل شيء أطعك في كل شيء" ، أي أطعني في البداية بالإعراض عن كل شيء أطعك في النهاية بالتجلّي في كل شيء. والمفهوم من الحديث أن من أعرض عن الله أعرض الله عنه.
فمن أراد التمتع بأنوار الحقيقة فليقم ميزان الشريعة الذي هو الفرار مما سوى الله. وعندي أن مجموع ذلك هو خلطة الناس التي هي سبب الغلط والالتباس، فمن وفَّقَه الله للوحشة من الناس فليعلم أن الله أراد أن يفتح له باب الأنس به كما قال ولي الله سيدي بن عطاء الله في حكمه : {مَتى أَوْحَشَكَ مِنْ خَلْقِهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ يُريدُ أَنْ يَفْتَحَ لَكَ بابَ الأُنْسِ بهِ}. ومن خالط الناس لم تستقم له مع الله حالة ولم تصف له المعاملة لما ينشأ عن الخلطة من المدارات والمداهنات. فالفقير الصادق هو سامري بنى إسرائيل، أبداً يقول: لا مساس، ولا يركن إلى الناس، وأما إذا كان الفقير قد نصب شباك الخلطة وأوقع فيها مخالبه ويطمع في الدخول إلى حضرة الله فما أشدّ بُعده وما أسوأ حاله. ألم يسمع قوله صلى الله عليه وسلم :{ المرء على دين خليله }. كيف يطمع في صون الأنفاس من لم يتوق صحبة الناس ؟ كيف يُرجى شروق أنوار قلبه وهو لم يقم بآداب ربه الذي يقول :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } من دوني، ولا عدوّ أكبر ممّن يصدّك بصحبته عن الله، فالفرار الفرار أيها الفقير من صحبة العالَم، واكتف بصحبة رجل يزهدك في الدنيا بنعت الدلالة على الله إن وجدته، واجعل هواك مقصوراً على هواه وافن فيه فناء من استولت عليه المحبة ولا يصدنّك الشيطان عن أوامره ونواهيه، فإنه يا فقير كلما تمسّكت بمحبّته إلاّ وصلت إلى محبّة النبي صلى الله عليه وسلم وكلما تمسكت بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم وصلت الى محبة الله. وهذا القدر لايحصل الا لفقير عقد على قلبه عقدة الصدق وأكدها بعقدة العزم وخرج من بيت نفسه هاجراً لما سوى الله من الأحباب والأولاد والأزواج والأقران فآوى إلى كهف الرحمة الربّانيّة فأمدّه الله بأنوار القربة والاصطفائية فنال غرضه ومقصوده.
فرضي الله عن من تفرّغ لصحبة الرجال قلباً وقالباً، وصادق أهل الحق في أحواله، وإنّ الظاهر عين الباطن، وتجرّد عن كل عائق في باطنه وشاغل في ظاهره فربح وربَّح، وهذا ما وجب به الإعلام. وتفطّن يافقير لهذا الكلام فإنّه سفينة السلامة من إقامة الملامة. والسلام.