اعلم أيها المريد أن أشد الناس عليك فسادا في العقدة صحبة من لا يدلّك على الله، فيدخل في هذا كل واحد واحد، وأكبر الناس فسادا من تجد الحقائق تنهمر من لسانه كالماء، وهو من عملها خال، بل لو وزنت عليه بعمل العامة ما وجدت عنده شيئا. وهذا أيها الفقير تجب عليك فرقته من عداوته، لأنه عدو لله ولك، يقسي قلبك بكلامه، ويصدك عن الله بحاله، وهذا أشد ضررا عليك من الشيطان، وهذا هو المقوّل فيه شيطان الطريق. تجده إذا أراد أن يحدثك يبدي لك أحوال نفسه، وأنه جال في ميادين الرجال، وحصل على مقامات أهل الكمال، وأنت إذا تأملت حاله وجدت إبليس لا يصلح له تلميذاً، وهذا يا أخي يجب الفرار منه على كل من كان صادقاً مع الله لأن الكلمة الواحدة منه ترمي الفقير إلى الفيافي والقفار، وقد سمّى الحق سبحانه مثل هذا شيطاناً في قوله :{ شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً }.والقول المزخرف هو الذي ظاهره صورة الحق وباطنه باطل، مثل كلام هذا الشخص الذي يتزيّى بزيّ الكمال وهو عن ذلك بمعزل، فالحذر الحذر يا فقير من صحبة الأرذال الذين رضوا بالحياة الدنيا واطمأنّوا بها وهم عن الآخرة غافلون. ولا شكّ أنّ من دلّك على غير الله هو الذي رضي بالدنيا الفانية حتى رضي عن نفسه وجعل يحسّن لك حاله ويدلّك على خصوصيته وهو من الخصوصية خالٍ، بينه وبينها ما بين السماء والأرض، ولا تعبأ بما يجري على لسانه من القلقلة والطقطقة، فإنما هو تزوير خدله الله به وجعله سبباً في خدلان غيره وسيأخده الله أخداً وبيلاً.
وقد علمت يا فقير أن المذاكرة إنما هي في الشرائع، والكلام في الحقائق إنما هو تفنّن، لأن الشريعة أصل والحقيقة فرع. فمن تمسّك بالأصول نال غرضه من الحقيقة وإلاّ فلا لقوله تعالى :{ وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا* لِّنَفْتِنَهُمْ فِيه وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا }. فالإعراض عن الشريعة موجب للحرمان، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :" من عمِلَ بِمَا عَلِمَ ورَّثَهُ الله عِلم مَا لَم يَعلَم ".
فتمسك يا فقير بالعروة الوثقى التي هي الشريعة، فإنها المحجة البيضاء التي لا يضلّ من سلكها، وكل من لم يذكّرك بها وفيها فلا تعبأ به.
وأما الحقيقة فإنها إذا تفجّرت ينابيع قلبك فإنها هي تطلب منك أن تجني ما عندها، وإذا تفجّرت منك ذُقتَ لذّتهاَ وعلمتَ حقيقتها، وإذا طلبتَها من خارج افتقرتَ إلى المعارج ولم تلتذّ بها، لأن من تكلّم بها كان في مقام عال أعطاه ذلك، وأنت في مقام دان لم يعطك ذلك، والعقل حاكم على أنّ ثمار الصيف لا توكل في الشتاء، فما أشد من طلب الشيء قبل إبّانه، وما أحلى طلب الشيء في مظانّيه، فتفطّن يا فقير وأزل دوخة دماغك حتى لا يفوتك شيء على أن الحقيقة هي تطلبك ولست أنت الطالب لها، والشريعة أنت طالب لها ومن الفتور والحمق أن تُعكس الحقائق فيصير الطالب والمطلوب طالباً.
وتأمل يا فقير أحوال من سلف، فقد أفصح القرآن على ذلك حتى قال بعض الصحابة في غاية البيان :"حسبنا كتاب الله" وقد قال تعالى :{ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } كذلك أنت أيها الفقير إنْ أنتَ أخدتَ بهذه النصيحة فقد أمنت من الفضيحة، وإلاّ فلسان الملام أقام عليك حجة الكلام. وهذا ما وجب به الإعلام، والسلام.
بغية السالك وإرشاد الهالك