اعلم أن دسائس النفس لا تحد ولا يمكن أن ّ تعد، وقد ألَّف الشيخ الأكبر أبو بكر الموصلي رحمه االله في دسائسها رسالةً نافعةً لدرن تلك الخسائس غسالة، ونبّه أكابر أهل الطريق على بعضها؛ ليطلق منها الوثيق، ويتنبه الغافل الخائض في بحار التعويق التي أمسى بها يتخبطه الشيطان من المسّ، فأصبح كالغريق، فمن ذلك أنها تنصح أجنابها، وتمنح الفوائد أصحابها، وتنبِّههم على الهلكات المتلفات وعدم التعلق بالآلات أو بما فات، وتأمرهم بالاشتغال بما يطلبه الوقت الحاضر، وتعرفهم بأن الوقت سيفٌ إذا لم تقطعه قطعك في أكثر المحاضر، مع أنها لا تتَّصف بما تدين إليه، ولا تنصف، فتعترف، وتتوب، وتفزع؛ للإقبال عليه، وتجيب داعي االله، وتترك كل ٍ داع ٍ ساه ٍ لاه.
قال سيدي داود بن باخلاَّ: داعي الدنيا يدعوك من حيث تشتهي وتميل، وداعي الآخرة يدعوك من حيث تنفرد وتكره، وداعي الحقيقة يدعوك من حيث تفنى ويذهب شاهدك؛ فلهذا تستجيب النفس سريعا للأول، وتستصعب الاستجابة للثاني، وتمتنع من الاستجابة للثالث، إلا إن حفت العناية.
وإذا كانت هي لا تجيب فكيف تجاب، وإذا كانت لا تقبل فكيف تقبل منها الطلاب، ومن ذلك حفظها لعبارات القوم الذين نبهوا من سكرة الغفلة والنوم، وإيرادها لها في المحافل، واعترافها بأن صاحبها عاقلٌ، وإظهارها التحسرُ والتلهف، وربما بكت وأبدت الزلة والتأسف، فإذا وقف صاحبها في البحث عن فعلها الحسن رأى أنها إنما فعلت ذلك ليقال عنها ما أتم إقراره بتقصيره وما أحسن، وهذه دسيسةٌ تورث الحجاب.
وقد قال أحد الأنجاب: أعظم من الحجاب، الحجاب عن الحجاب، ويا الله العجب ممن يفتر بشقشقة اللسان وهو يعلم أنها لا تجديه نفعاً ولا تكسبه يوم نشر الصحائف رفعاً.
ومن جملة دسائسها القبيحة المليحة الفضيحة نسأل االله تعالى السلامة بجاه صاحب العلامة والعمامة أنها إذا عزم صاحبها على الاشتغال بالقراءة والذكر والمحاسبة والفكر تُظهر له الكسل والملل، وربما توهّم غلبة النوم عليه، وأمثال هذه العلل، فإذا وافقها وأراد المنام فتحت له بابًا إلى مسامرة بعض أصحابه واتسع الكلام، وقد يسأله بعض إخوانه عن مسألة في الطريق وهو في غاية من الصعب الطاوي من السهر والمكابدة في آداء مراسم هذا الفريق من ٍ أورادٍ وأذكارٍ وقيامٍ وصيام؛ رجاء الوفاء بواجب التمزيق لحاجب التدقيق، فيجيبه ٍ بجواب أ و أجوبة جمَّة، وربما نشط في أثناء الكلام، ورأى النشاط َّ عمه، فيقول في نفسه: الحمد الله الذي جعلني إذا سُئلت عن مسألة وأنا كسلان أنشط لإفادة الإخوان؛ استغناما لتحصيل الأجر الجزيل من الرحيم الرحمن، ولو أنه وقف على هذه الدسيسة لرأى نفسه إنما نشطت مخافة أن تنسب عند السائل إلى الجهل وعدم المعرفة بهذا السؤال الصعب والسهل، أعاذنا االله منها، ونبَّهنا؛ لنخلص من شرِّها والأخذ عنها.
ومنها : أن يذكر في مجلسها بعض المعاصرين الفضلاء من الأعلام النبلاء، ِّ فيرشح بعض من حضر بما فيه حظ لمقامه، فنقول لصاحبها: وجب عليك الدفع عن أخيك، ورد قول هذا الطاعن؛ فإنه أبلغ من الطعن فيك، فيشرع في توجيه ما أوجب للمعترض الإعراض، ويبني لها من هذا الفعل من القبح والأمراض، وربما شدد عليه النكير، وألزمه بالذهاب إلى المستغاب، وطلب السماح، وذكر ما صدر من التعريف أو التكبير، وإذا أمعن نظره في ذلك وجدها دسّت دسيسةً خفيَّة المسالك، وهي صيانة مجلسها من أن يقال: يستغاب عنده، فلا يرد ويتكلم لديه بما لا يعني، فلا يصد، ويسمع فعله ذلك المستغاب، فيمدحه، ويشكر منه هذا الصنيع المستطاب.
كان سيدي أبي الحسن الشاذلي َ قدس االله َّ سره يقول: من علم اليقين باالله عز وجل وبما لك أن تتعاطى من الخلق ما لا تصغر به عند االله مما تكرهه النفوس الغوية، كحمل متاعك من السوق، وجمع الحطب للطعام، وحمله على رأسك، والمشي مع زوجتك إلى السوق في ٍ حاجة من حوائجها، وركوبك خلفها على الحمار وغيره، وأما ما تصغر به في أعين الناس مما للشرع عليه اعتراض فليس من علم اليقين؛ فلا ينبغي لك ارتكابه.
وكان رضي الله عنه يقول: إذا أهان االله عبدا كشف له عن حظوظ نفسه وستر عنه عبوديته؛ فهو يتقلب في شهواته حتى يهلك ولا يشعر.
وكان رضي الله عنه يقول: إذا انتصر الفقير لنفسه فأجاب عنها فهو والتراب سواء لا قدر له عند أهل الشأن، ومن شان له بذلك فما يعاب بل يعان؛ ليذهب عن قلب المجيب ما يُغان.
وكان رضي الله عنه يقول: العارف باالله تعالى لا تنقصه حظوظ نفسه؛ لأنه باالله فيما يأخذ وفيما يقول، إلا إذاكانت الحظوظ معاصي االله.
ومن قبيح دسائسها أنها تذكر لصاحبها ما جاء في فضل السماحة والكرامة، وتحسن له الجود بالموجود دون امتنان لا جرم، وتبسط إذا سمح، وتسر إذا منح، وتزين له إن أمكن من كمال الإنسان أن يفرح بالإحسان، فأفق واصح؛ فمن أفاق وصحا وحقق مالها وللتدقيق نحَّار: أي أن قولها زور ومحض ٍ تلبيس ليس فيه نور، وعلم أنها إنما سمحت لتكون له اليد العليا على الأخذ، وليقلده المنة، فيسمح لها بالغفوات معه، فلا يؤاخذ، وينشر لواء مدحها، ويطوي منثور قدحها، ولو أنها أخلصت النية وحسنت الطوية ورأت أن ما أهدته كان عندها أمانة فأدّت لصاحبها فسلمت من آفة الخيانة والجبانة وشهدت الفضل له حيث َّ خفف حملها وأخذ ماله عندها لكان وصفا حسنًا؛ إذ أخلص سرا وعلانية، لكنها قل أن تدع لصاحبها مقصدا صافيًا من الأكدار؛ لاتفاقها عليه مع العدو الأكبر الغدار، ولذا عضُل الداء، واستصعب الدواء.
ولقد قال سيدي داود بن باخلاَّ رضي الله عنه:إذا اعترضت النفوس للسالكين أوقفتهم عن مزيد الأذكار والطاعات، وإذا اعترفت للعارفين حجبتهم عن لذائذ المشاهدات والارتقاء إلى أعلى الدرجات؛ فالنفس مانعةٌ للفريقين.
وقال رضي الله عنه :ألجمت النفوس في مفاتِح التوحيد بلجام لا حتى ترجع عن جميع دعاويها أي فإذا رجعت وأنابت واستسلمت وأجابت أمرت بذكر اسم الذات؛ لتكمل لها بالجمعية سائر اللذات، ثم إذا برقت لها بوارق القبول وترقَّت في العثور على طوارق الوصول نوعت لها الأسماء؛ لتحلِّق بالمقام الأسمى، ومن ذلك أنها تعرف من يصحبها آداب الصحبة، وتقول لصاحبها: عرفه بما لها من الشروط، واذكر له بعض ما ذكره الهمام الأكبري في "المحكم المربوط"؛ فعسى أن ينتفع بذلك إن صحب أحد الأشياخ من كل ٍ سالك، وآدابها إنما ثبت له ما هنالك ليسلك معها هذه المسالك، فلا حول ولا قوة إلا باالله السيد المالك، وإنَّا الله وإنا إليه راجعون من ظلمة هذه الحوالك، اللَُّهم سلِّمنا وسلِّم أحبابنا من الوقوع في المهالك، تطلب من كل ٍ صديق وصاحب أن يفي بصحبتها، وهي لا تفي ِ بصحبة أعز مصاحب، فهل سمعت ً سندا ترويه عن تابعي أو صاحب؟! كلا، ولكن غرها الأماني الكاذبة، فأين أين الناجب؟! فقد مضى العمر معها سبهللا، ولم يدن ضحيها من حي المعرفة، ولا راق له منها منهلاً؛ َّ فحق البكاء، وإلى االله المشتكى.
ويا ليتها لما دلت على شروط الصحبة والوفاء بحقوق المحبة، اتصفت ببعض الأوصاف اللازمة؛ لتكون متنبه لرئيها حازمة، وعلى طلب الكمال الداعية له جازمة، ولما تغافلت عن قول العارف القليل أمثاله لا تصحب إلا من ينهضك حاله، ويدلك على االله مقاله، وأين النهيض والدلالة عند من لا شبيه لها إلا البقرة الجلالة، والتي عندها في عاداتها فطنة الأعراب، ولها عند إراداتها يقظة النحويين الأعراب، وأما مواعيدها العرقوبية فلمع سراب، وأما مودتها فمودة السوفة مع الأصحاب، ولها في طلباتها مودةٌ، ومع نُصَّاحها فمودة صحبة السفيه، لا تكتم السر إلا كما يكتم الزجاج، ولا تخفي ما استودع إلا كما يخفي السراج، إذا طلبت طريق المعاصي كانت أهدى من القطا ،وإن رامت سبيل التواصي لتهدي الصواب ضلّت، وساعدتها الخطا للخطا؛ فهو كتيم في ذلك الوصف الذميم.
ومن جملة دسائسها أن ِّ تحرض صاحبها على طلب العلم الزائد على قدر الواجب المثمر بالفوائد، وتسرد عليه ما جاء في فضل العلم، وأن النفع المتعدي أبلغ من القاصر كالصفح والحلم، فإذا جد وجد، فأدرك بعض ما أمل بالجهد والكدارة غيوب الجهلاء الذين لم يدركوا ما أدرك، وصغَّرتهم في عينيه؛ فرآه كالذر أو شيئًا لا يدرك، ولم تزل تعظم نفسها بما فارقت به من المعارف، حتى تتنكر وتتكبر على الأجانب والمعارف، فإذا نبَّهها وقال لها: ما هذا العجب بعلمك وعملك، وما هذا الزهو والفخر الذي ما َجمَّ ِ لك بل الأوزار َحمَّلك؟! فتنكر إعجابها، وربما على نفيه تقسم، أو تصرف بنقصها؛ كي ما عنها مادة العتاب تحسم، وإذا رآها تطلب العلم ولم تعمل ودعا لها تسوف وتقول: الآن الطلب أجمل والتعلم أشرف العبادات وأكمل، فإذا قضيت منه الأرب كابدت العلم؛ كي ما به تجمل، وكل هذا من باب التسويف والتحريف، حتى يأبى زمان الصبا، ويأتي المشيب بسيوله الموجبة للتخريف، ويتبعه الضعف، فيستحق صاحبها التقريع والتعنيف، توعده بالإقبال مواعيد كمونية، وربيع الزمان والشباب ّ غض، فإذا وليا عنه وذهبا ورأى نفسه صفر اليدين ما استفاد فضةً ولا ذهبًا، على السبابة بالنواجذ عض؛ حيث أضاع في الصيف لبن الفوائد، وفي الشتاء الذي هو ربيع المؤمن زور الزوائد، وفي خريف اجتناء الثمار عود العوائد، وفي ربيع الأرواح والأجسام ادخار طلب الأعمال ليوم الشدائد، وكل ما مضى لا يعاد، ومريض عين القلب كالعين لا يعاد، وكل ما عاين منها حب الرئاسة على الأقران والتميز ما بين الخلان والتصدر في المجالس والمماراة والمجادلة مع كل مجالس ونهاها عن هذه الصفات القبيحة تبدي له الأعذار بأن مرادها المذاكرة والمطارحة، وما شابه ذلك من الأوجه الصحيحة، وإذا ألزمها الحجة وعرّفها أنها خلت المحجّة استدلت عليها بقول القائل من الأوائل: طلبنا العلم لغير االله، فأبى أن يكون إلا لله، وهو قولٌ صحيح ٌ وحكم ٌ رجيح وله وجهان:
إما أن َّ يرد صاحبه إلى الإخلاص في النية؛ فيكون الحق سبحانه أحسن إليه ولطف به، وهذا غير واقع لكل من طلب العلم بغير ٍ إخلاص.
وإما أن يكون المعنى أن العلم كان ً نورا من أنوار االله يهدي إلى الحق وإلى الطريق المستقيم، وقد عصى صاحبه بطلب العلم لغير االله، وامتنع العلم أن يستقر في ذهنه؛ لأنه ٍعاص، والعلم ٌ نور من نور االله، ونور االله لا يُؤتى ٍ لعاص.
وكيف يثبت وصف العلم ٍ لعالم قصد بتعليمه غير االله، وهو قد ارتدى برداء الجهل المنافي لوصف الجهل! أم كيف يتحرك جسد المعلم بدون روح الإخلاص؟! وقد يقال في المعنى: طلبنا العلم ليكون ً قائدا لنا لغير االله من حظوظنا، فأبى أن يكون موصلاً لنا إلا إلى االله؛ لأن طلب غير الله جهل، وكيف يدل العلم على الجهل والجهل ظلمةٌ والعلم نور؟! وكيف النور يهدي إلى الظلمة؟! وليس العجب من فاضل بعلمه أعجب، إنما يتعجب من ٍ جاهل ٍ متلبس لدعواه، وهذا أعجب؛ إذ هو المسمى بالجهل المركب، وهو الأحمق بعينه الذي ُيجتنب؛ فإن الرجال في المعرفة على أربعة ٍ أقسام كما ذكره أحد الأعلام فقال: ٌ رجل يدري، ولا يدري أنه يدري، فهو عالمٌ؛ فاتَّبعوه، ورجل لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري، فهو أحمق؛ فاجتنبوه.
جزاكم الله خير الجزاء
ردحذف