شرائط الطهارة معروفة، وحقائقها لا ينالها إلا الموفّقون، وهي طهارة السر وأكل الحلال وإسقاط الوسواس عن القلب وترك الظنون والإقبال على الأمر بحسب الطاقة، فإذا حصل الإنسان على هذه الطهارة بنعت انضمامها إلى الطهارة الظاهرة فهو الذي تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر، وهو الذي تكون صلاته قربة ووصلة، وهو الذي تكون صلاته دائمة بنعت السجود في حضرة الربوبية الذي لا رفع بعده، ولا تظن أنّ من تلبّس بصورة الأمر أتى بحقيقته، بل المصلّون كثيرون والقائمون قليلون، وما يعلمهم إلاّ قليل.
ومن أجل أنّ المطلوب هي الطهارة المعنوية تجد الحق إذا ندب العباد إلى الصلاة خاطبهم بالإقامة كقوله :{وَأَقيمُوا الصَّلاَةَ} {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ}إلى غير ذلك. فالكامل همّه إقامة الصلاة وغيره همّه وجود الصلاة، وشتّان ما بين المنزلتين، إذ ما كل مصلِّ مقيم. لذلك قال صلى الله عليه وسلم :"رًبَّ مصلّ ليس له من صلاته إلاّ القيام، ورُبَّ صائمٍ ليس له من صيامه إلاّ الجوع". وهذا الصنف هو المخاطب بالويل في قوله تعالى : {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} وسهوهم إنما هو حيث زيّنوا ظواهرهم بالطاعات وخرّبوا قلوبهم بحب الشهوات، زخرفوا ظواهرهم بأنواع النسك والحق لا يعبأبها وقبّحوا بواطنهم بحب الدنيا والحق ناظر إليها."إنّ الله لا ينظر إلى صُوركُم وإنمَا ينظُر إلى قلُوبكُم". فالظاهر باطل والباطن حق، والاعتناء بالباطل من عدم معرفة الحق.
كذلك من اعتنى بالظواهر وأقبل على أنواع النسك، وغفل عن تصفية نفسه وتهذيبها، حتى يتطهر سره من رؤية السوى، الذي هو عين ما سواه، فإن الحق لا ينظر إلى قلبه، نعني لا يتجلى له بأنوار صفاته، ولا يحظى بذوق حلاوة مناجاته.
ولمّا كمل نظر أهل الله وعلموا مقاصد الشرع من أنواع المعاملات، اقتصروا على المفروض وما تأكد من المسنون، وتوجّهوا إلى أمر هو عند الناس بدعة وعندهم سنّة، فأخدوا وتركوا وساروا بحسبه آداب الأخد والترك، وأرباب النسك في حيرة من حالهم ولا يعرف ما هم عليه إلاّ من سلَك طريقهم. ولذلك قال إمام العشاق سيدي ابن الفارض :
تمسّكْ بأذيالِ الهوى واخلعْ الحيا
وخلِّ سبيلَ النَّاسكينَ وإنْ جلُّوا
وقلْ لقتيلِ الحبِّ وفَّيتَ حقَّهُ
وللمدَّعي هيهاتَ مالكحلُ الكحلُ
أي قل لمن أخد بطريق النسك
ولم يخلع عذاره في هوى محبوبه
بنعت المخالفة للهوى : لا تطمع في رتبة المعرفة ولا ان تلحق بدرجاتهم إذ التكحّل ليس كالكحل من حيث الحسن موجوداً فيهما، لكن شتّان ما بين الذاتي والعرضي، والله ولي التوفيق . والسلام.
بغية السالك وإرشاد الهالك