الدعاة والمربّون والوسطاء والمدّعون
وشرعيّة الوسائط المعنويّة كسبب الهداية
الدعوة إلى الله مشروعة، وقائمة بقيام الأرض والسماء؛ لأنها تقوم على أساس الدعوة إلى الحيّ القيّوم، الذي كان قبل كل شيء، ويبقى بعد كل شيء.. وقد ركّز القرآن اعتباراتها الأساسية على البصيرة، التي ترتكز على الجوانب المعنوية، من الرحمة والشفقة والأخلاق الربانيّة، واللّطائف الرّوحانية الباطنيّة، والفهم عن الله وبه، قبل أن ترتكز على الجوانب الفكريّة والمنطقيّة، التي من ميدان العقل ونتائجه.. فكانت في الدّرجة الأولى، وبالاصالة من حق الرسول صلى الله عليه وسلم ثم من حقّ أصحابه، ومن حقّ من اتّبعه، وورث سرّ نبوّته وعلمه، وقام على قدَمه وسَننه وسُننه، واهتدى بهديه، واقتدى به، والتزم بسيرته وسلوكه.. والقيام بها ينطلق من صميم الإيمان وقوّته، بعيداً عن أيّ شائبة من الشّرك الظّاهر أو الخفيّ. قال الله تعالى - مخاطبا لنبيّه - :{ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (115).
إنه حسب الظاهر، وعلى مستوى الشريعة سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم وحسب الباطن، وعلى مستوى الحقيقة سبيل الله، إذ ليس للرسول من سبيل غير سبيل ربّه. وكلّ السبل والمناهج والأساليب قد يخطّطها البشر، ويضعها حسب مصلحته وإرادته، إلاّ منهاج أو أسلوب الداعية إلى الله، فمن الله وإليه شِرعةً ومنهاجا. قال تعالى - مخاطبا لنبيه - :{ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }(116) وهو منهاج شرعيّ ربانيّ أنزاشر الله الله وحْياً على نبيّه. ومن خالف ما شرعه الله في كتابه، يعدّ عاصياً مبتدعاً، والعاصي المبتدع ضالّ مضلّ. دعوته تقع في إطار الشعودة، ولا تقع في إطار الدعوة إلى الله.
ونتساءل حول تصرّفات بعض الفرق أو الطرق، التي تمارس من البدع ما لايقبله لا الشرع ولا الخلق الحسن، ولا السلوك القويم، ولا العقل السليم : هل ترضي الله، أو ترضي الشيطان ؟ والجواب في قوله تعالى :{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }(117) كما نتساءل حول أساليب بعض الحركات الإسلاميّة، هل كانت باسم الله والرسول صلى الله عليه وسلم والعمل بالكتاب والسنة، ودعت بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، كما شرعه الله لنبيّه، أو كانت بالعنف والخشونة ؟ وفي أيّ إطار نضعها ؟ هل نضعها في إطار حكم الآية، وعمل الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته أو نضعها في إطار ما سمّوه بالإرهاب ؟ والإسلام بريء من أيّ عمل مخالف للكتاب والسنّة.
وفي تحديد الهدف من الدعوة، وينبغي للداعية إلى الله أن يعمل في إطاره، وان لا يكون له أي هدف : مادّي أو سياسيّ أو إيديولوجيّ... يخرجه عن إطاّر الصدق والإخلاص، يروي مسلم عن أبي هريرة أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا) إن الحديث قيّد عمل الداعية إلى الله بالدعوة إلى هُدىً،. والهُدى هو الذي أرسِل الرسول من أجله. قال تعالى :{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } (118) وبالدعوة إليه، اقتداءً بالرسول، يكون للداعية من الأجر مثلُ أجور من تبعه، وبالعكس يكون عليه من الوزر مثلُ أوزار من تبعه، إذا دعا إلى ضلالة، مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم:{ من سنّ سُنَّةً حَسنَةً، فَلَهُ أَجرُهَا وَأَجْرُ مَن عَمِلَ بِهَا إِلى يَوْمِ القِيامَةِ، ومَن سنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَلَهُ وِزرَهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ }.
وبمقتضى عمومه يكون من ابتدع طريقة باسم التصوف الإسلامي، أو أسّس جمعيّة شخصيّة غير شرعيّة باسم الإسلام، أو حركة تُخفي وراءها أغراضاً ماديّة أو أهدافاً سياسيّة، أو قام بدعوة لم تقم - شرعا وأسلوبا وهدفا - على المشروعيّة من كتاب الله وسنّة رسوله، ولم تقيّد بقول الرسول صلى الله عليه وسلم :{ مَنْ دَعَا إِلَى هُدَى } يكون قد تحمّل المسؤوليّة أمام الله، ونزل عليه العقاب في قول النبي صلى الله عليه وسلّم :{ مَن سنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَلَهُ وِزرَهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ }.
ومن الالتباسات التي يخلقها البعض، أنّهم ينعتون الدعاة إلى الله من أصحاب الحقيقة الصّوفيّة بالوسطاء، ويردّدون لا واسط بيْن العبد وربّه، مستعملين النصوص في غير مواضيعها، فيستدلّون - مثلا - بقوله تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } (119) وقوله :{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْق، ولخالوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ }(120) الواردتيْن في التوسّل والدعاء، الذي من حق المسلم على أي حالة كان، ويخرجون عنه إلى عمل الداعية إلى الله، والمربّي في التربيّة الروحيّة.. ، والمربّي في التربيّة الروحيّة شبيه بالمربّي في التربيّة الإسلاميّة والخلقيّة.. والتربيّة - إسلاميّة كانت أو روحيّة - عمل، وليست بواسطة.. ويجهلون أن لا مكان في الإسلام للوسائط البشريّة المحسوسة. وإنّما توجد في المسيحية التي تنتخب "البابا" وأمّا الإسلام فإنّه لا يعرف إلاّ الوسائط المعنويّة، التي هي سبب الهداية ولا تضمنها، وتعتبر سرّا من أسرار الإسلام. ومَن ينكر أنّ الرسول صلى الله عليه وسلّم كغيره من المرسلين لم يتلق رسالة السماء إلاّ بواسطة جبريل ؟ ونحن ككلّ أتباع المرسلين لم نعرف الخالق، ولم نعتقد بوجوده، ولم نعرف شرعه وكتابه المنزّل، والهداية في طريقه، إلاّ بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلّم بلّغنا بأمانة، وصدّقنا مؤمنين. ومن أسقطها أسقط اعتبار الإسلام في حقه.
** ** **
115 - سورة يوسف : 108
116 - سورة النحل : 125
117 - سورة القلم : 7
118 - سورة الفتح : 28
118 - سورة الفتح : 28
119 - سورة غافر : 60
120 - سورة البقرة : 186