قال الجنيد: "تقصير المحبّين بلحظة تقع في الأوقات، وذلك فضل الله عليهم ليزيد في خؤفهم واضطرارهم وفقرهم، وتقصير العارفين بخطرات سرّهم، وذلك تنبيه من الله لهم لكي لا يأمنوا من مكر الله لأن المكر يظهر في هذا المقام . وتقصير الموحدين بالإشارات الخفية وذلك بشارة من الله لكي لا يسكنوا به لأن ذلك مقام النفي، والنفي ملاك البدن، ويزيد بإشاراتهم قوة".
فالخوفُ اسمٌ جامع لحقيقة الإيمان، وهو عِلْمٌ لوجودِ الإيقان، وهو سبب اجتنابِ كلّ نهي، ومفتاحُ كلِّ أمرٍ، وليس شيءٌ يحرق شهوات النفوس ويزيل آثارَ آفاتِها إلا مقامُ الخوفِ. وقال أبو محمد سهل رحمه الله تعالى: كمالُ الإيمانِ بالعلم، وكمالُ العلمِ بالخوف. وقال مرة: العِلمُ كسْبُ الإيمان، والخوفُ كسب المعرفة. وقال أبو الفَيض المِصْرِيّ: لا يُسقَى المحبُّ كأسَ المحبةِ إلا من بعد أن يُنْضِجَ الخَوفُ قلبَه. وقال: خوفُ النارِ عند خوفِ الفراق بمنزلة قطرةٍ قُطِرَت في بحرٍ لُجِّىٍّ.
فكلُّ مؤمن بالله تعالى خائف منه، ولكن خوفه على قدرِ قُربه. فخوفُ الإسلامِ اعتقادُ العزة والجبرية لله تعالى، وتسليم القدرةِ والسّطوة له، والتصديقُ لما أخبر به من عذابه، وما تهدّد به من عقابه. وقال الفُضيل بن عِياض: إذا قيل لك: تخاف اللهَ، فاسكت؛ لأنّك إن قُلتَ: لا، كفرتَ، وإن قلتَ نعم، فليس من وصفُكَ وصفَ من يخاف. وشكا واعظٌ إلى بعض الحكماء فقال: ألا تَرى إلى هؤلاء أعظمهُم وأذكِّرهم فلا يرقُّون؟ فقال: وكيف ينتفعُ بالموعظةِ من لم يكن في قلبه الله تعالى مخافة. وقد قال الله تعالى في تصديق ذلك: ﴿سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى﴾، أي: يتجنب التذكرة الشقيُّ. فجعل مَنْ عَدِم الخوفَ شقيًا وحَرَمه التّذكرَةَ.
فخوفُ عموم المؤمنين بظاهر القلب عن ظاهر العلم بالعَقد. وخوفُ خُصوصِهم، وهم الموقنون، بباطن القلب عن باطن العلمِ بالوَجْد. فأما خوفُ اليقين فهو للصديقين من شهداء العارفين عن مشاهدة ما أُمِرَ به من الصفات المخوفة. وقد جاء في خبر: "إذا دخلَ العبدُ في قبره لم يبقى شيء كان يخاف دون اللهِ عز وجل إلاْ مُثِّل له يُفزعه ويُرعبه إلى يوم القيامة".
فأولُ خوفِ اليقين الموصوف الذي هو نعت الموصوفين من المؤمنين المحاسبةُ للنَّفْس في كلِّ وقت، والمراقبةُ للربّ في كلِّ حينٍ، والورعُ عن الإقدامِ على الشبهات من كلّ شيءٍ من العلوم بغير يقينٍ بها، ومن الأعمالِ بغير فقهٍ فيها. وفي خبر موسى عليه السلام : وأمّا الورعونَ فإنّه لا يبقى أحدٌ إلا ناقشته بالحساب، وفتشته عما في يديه، إلا الورعين فإني أستحيِيهم وأجلُّهم أن أُوقفهم للحساب.
وكلُّ مَن لم يستعمل قلبَه في بدايتهِ، ويجعل الخوفَ حشْوَ إرادتِهِ، لم يُنجبْ في خاتِمته، ولم يكن إمامًا للمتقين عند علوّ معرفته.
وأعلى الخوفِ أن يكون قلبُه مُعلَّقًا بخوف الخاتمة، لا يَسْكُن إلى عِلْمٍ ولا عملٍ، ولا يقطع على النّجاة بشيءٍ من العلوم وإن علَت، ولا بِسبب من الأعمال وإن جلَّت، لعدم علمه بتحقيق الخواتم، فقد قيل: "إنّما يُوزن من الأعمالِ خواتيمُها".
وكلما إزداد السالك معرفة بالله إزداد خوفا من الله، لأن حال الخوف متولدة من المعرفة. من هنا يصبح الخوف من الله تعالى على قدر المعرفة بالله.