{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }
{ وَ } اذكر يا محمد { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ إِنّى جَاعِلٌ فِى ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } يخلفني في تنفيذ أحكامي فيها وهو آدم { قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } بالمعاصي { وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَاء } يريقها بالقتل كما فعل بنو الجان وكانوا فيها فلما أفسدوا أرسل الله عليهم الملائكة فطردوهم إلى الجزائر والجبال { وَنَحْنُ نُسَبّحُ } متلبسين { بِحَمْدِكَ } أي: نقول سبحان الله وبحمده { ونقدس لك } ننزهك عما لايليق بك فاللام زائدة والجملة: حال أي: فنحن أحق بالاستخلاف. { قَالَ } تعالى { إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } من المصلحة في استخلاف آدم وأن ذريته فيهم المطيع والعاصي فيظهر العدل بينهم فقالوا: لن يخلق ربنا خلقاً أكرم عليه منا ولا أعلم لسبقنا له ورؤيتنا ما لم يره فخلق الله تعالى آدم من أديم الأرض أي: وجهها بأن قبض منها قبضة من جميع ألوانها وعجنت بالمياه المختلفة وسوَّاهُ ونفخ فيه الروح فصار حيواناً حساساً بعد أن كان جماداً.
قال الواسطى فى قوله تعالى : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } أظهر عليهم ما أضمروه فى شواهدهم لكم دونه فأظهر حرف كرمه؛ لأن حرف الكرم أن ترى أن شروط الجناية لا تهدم العناية ولو أكرمهم على ما كان منهم لم تظهر حقائق الكرم، ولما قالوا { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } علَّم آدم الأسماء كلها فرجعوا إلى رؤية التقصير فى تسبيحهم وتقديسهم فقالوا: { سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ } [الآية: 32] إن التسبيح والتقديس لا يقربان منك إنما يقرب منك سبق عناية الأزل وهو لا تقدح فيه الجنايات والعصيان.
قال أبو عثمان المغربى: ما بلاء الخلق إلا الدعاوى، ألا ترى أن الملائكة قالوا: نحن نسبح بحمدك ونقدس لك حتى ركنوا إلى الجهل فقالوا: لا علم لنا.
قال ابن عجيبة : اعلم أن الروح القائمة بهذا الآدمي هي قطعة من الروح الأعظم التي هي المعاني القائمة بالأواني، وهي آدم الأكبر والأب الأدم.
فلمّا أراد الحق تعالى أن يستخلف هذا الروح في هذه البشرية لتدبرها وتصرفها فيما أريد منها، قالت الملائكة بلسان حالها: كيف تجعل فيها من يفسد فيها بالميل إلى الحظوظ والشهوات، ويسفك الدماء بالغضب والحميات، ونحن نسبحك وننزهك عما لا يليق بك؟ رأت الملائكة ما يصدر من بعض الأرواح من الميل إلى الحضيض الأسفل، ولم تر ما يصدر في بعضها من التصفية والترقية، فقال لهم الحق تعالى: { إني أعلم ما لا تعلمون } فإن منها من تعرج إلى عرش الحضرة، وتعبدني بالفكرة والنظرة، وتستولي على الوجود بأسره، وتنكشف لها عند ذلك أسرار الذات وأنوار الصفات وأسماء المسميات. فيقول الحق تعالى للملائكة: هل فيكم من كشف له عن هذا السر المكنون، والاسم المصون، فقالوا: { سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا } من علم الصفات دون أسرار الذات { إنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } يقول الحق تعالى لروح العارف التي نفذت إلى بحر وحدة الذات وتيار الصفات: أنبئهم بما غاب عنهم من أسرار الجبروت، وأسماء الملكوت، فلما أعلمهم بما كوشف له من الأسرار، وانفق له من الأنوار، أقروا بشرف الآدمي، وسجدوا لطلعة آدم عليه السلام فقال الحق لهم: { أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ }؟ أي: ما غاب في سماء الأرواح من الأسرار وفي أرض النفوس من الأنوار، وأعلم ما تظهرونه من الانقياد، وما تكتمونه من الاعتقاد، والله تعالى أعلم. ولما تبينّ شرف آدم عليه السلام وبان فضله أمرهم بالسجود له.
تفسير البحر المديد/ ابن عجيبة