( شُعَاعُ الْبَصِيرَةِ يُشْهِدُكَ قُرْبَهُ مِنْكَ ، وَعَيْنُ الْبَصِيرَةِ يُشْهِدُكَ عَدَمَكَ لِوُجُودِهِ ، وَحَقُّ الْبَصِيرَةِ يُشْهِدُكَ وُجُودَهُ ، لاَ عَدَمَكَ وَلاَ وُجُودَكَ )
البصيرة ناظر القلب ، كما أن البصر ناظر القالب ، فالبصيرة ترى المعاني اللطيفة النورانية ، والبصر يري المحسوسات الكيفية الظلمانية الوهمية .
ثم البصيرة باعتبار إدراك نور المعاني اللطيفة عل خمسة أقسام :
قسم فسد ناظرها فعميت ، فأنكرت نور الحق من أصله قال سيدي البوصيري :
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد
وينكر الفم طعم الماء من سقم
وهذه بصيرة الكفار .قال تعالي :" فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ "
وقسم صح ناظرها لكنها مسدودة لضعف ناظرها لمرض أصابه ، فهي تقر بالنور لكنها لا تقوي علي مشاهدته ، و لا تشهد قربه منها ولا بعده عنها ، وهي لعامة المسلمين وقسم صح ناظرها وقوي شيئا ما ، حتي قرب أن يفتح عينه ، ولكن لشدة الشعاع لم يطق أن يفتح عينه فأدرك شعاع النور قريبا منه ، وهو لعامة المتوجهين ، ويسمي هذا المقام شعاع البصيرة وقسم قوي ناظرها ففتح عين بصيرته فأدرك النور محيطا به حتي غاب عن نفسه بمشاهدة النور ، وهذا لخاصة المتوجهين ، ويسمي هذا المقام عين البصيرة.
وقسم صحت بصيرته واشتد نورها فاتصل نورها بنور أصلها ، فلم تر إلا النور الأصلي ، وأنكرت أن يكون ثم شىء زائد علي نور الأصل ، كان الله ولا شىء وهو الآن علي ما عليه كان ويسمي هذا حق البصيرة ، ووجه تسميته بشعاع البصيرة أن صاحبها لما كان يرى وجود الأكوان انطبعت في مرآة بصيرته ، فحجبته عن شهود النور من أصله ، لكن لما رقت كثافتها وتنورت دلائلها ، رأى شعاع النور من ورائها قريبا منه ، فأدرك الشعاع ولم يدرك النور ، وهذا هو نور الإيمان ، وهو مقام علم اليقين.
ووجه تسمية عين البصيرة : أن البصيرة لما صحت وقويت انفتحت عينها فرأت النور محيطا ومتصلا بها ، فسميت عين البصيرة ، لانفتاحها وإدراكها ما خفي علي غيرها ، وهذا مقام عين اليقين.
ووجه تسمية حق البصيرة : أن البصيرة لما أدركت الحق من أصله وغابت عن نور الفروع بنور الأصول ، سميت حق البصيرة ، لما أدركته من الحق ، وغابت عن شهود الخلق ، وهذا مقام حق اليقين فشعاع البصيرة هو نور الإيمان لأهل المراقبة ، وعين البصيرة هو نور الإحسان لأهل المشاهدة ، وحق البصيرة هو نور الرسوخ والتمكين لأهل المكالمة .
أو تقول : شعاع البصيرة نور علم اليقين ، وعين البصيرة هو نور عين اليقين وحق البصيرة هو نور حق اليقين . فعلم اليقين لأهل الدليل والبرهان ، وعين اليقين لأهل الكشف والبيان وحق اليقين لأهل الشهود والعيان .
مثال ذلك : كمن سمع بمكة مثلا ولم يرها ، فهذا عنده علم اليقين ، فإذا استشرف عليها ورآها ولم يدخلها فهو عين اليقين ، فإذا دخلها وتمكن فيها فهو حق اليقين ، وكذلك طالب الحق ، فمازال من وراء الحجاب فانيا في الأعمال فهو في علم اليقين ، فإذا استشرف على الفناء في الذات ولم يتمكن من الفناء فهو عين اليقين ، فإذا رسخ وتمكن فهو في حق اليقين .
أو تقول : شعاع البصيرة لأهل عالم الملك ، وعين البصيرة لأهل عالم الملكوت ، وحق البصيرة لأهل عالم الجبروت .
أو تقول : شعاع البصيرة لأهل الفناء في الأعمال وعين البصيرة لأهل الفناء في الذات ، وحق البصيرة لأهل الفناء في الفناء .
فشعاع البصيرة يشهدك قرب الحق منك : أي يوجب لك شهود قرب نور الحق منك .
قال تعالى : " ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد " وقال تعالى : " وهو معكم أينما كنتم " .
وعين البصيرة يشهدك عدمك : أي زوالك بزوال وهمك لوجوده أي وجود الحق إذ محال أن تشهد معه سواه ، فإذا زال عنك الوهم وفنيت عن وجودك ، شهدت ربك بربك ، وهو علامة فتح البصيرة وعلاج .
فظاهره أن عامة المسلمين عميت بصيرتهم . والتحقيق هو ما تقدم من التفصيل ، وأنها مسدودة فقط مع صحة ناظرها ، بخلاف بصيرة الكفار فإنها عمياء.
وحق البصيرة يشهدك وجود الحق وحده لا وجودك ، لأنك مفقود من أصلك وعدمك إذ لا يعلم إلا ما ثبت له وجود ، ولم يكن مع الله موجود .
قال محيي الدين بن محمد بن علي بن العربي الحاتمي رضي الله عنه : "من شهد الخلق لا فعل لهم فقد فاز ، ومن شهدهم لا حياة لهم فقد جاز ، ومن شهدهم عين العدم فقد وصل"قلت : ومن شهدهم بعين العدم فقد تمكن وصاله.
** ** **
إيقاظ الهمم في شرح الحكم
ما المقصود بالفناء العبد في الاعمال؟
ردحذف