( والغربة على ثلاثة مقامات، غربة عن الأوطان، وغربة عن الأحوال، وغربة عن الحق. فالغربة عن الأوطان من أول حقيقة القصد، والغربة عن الأحوال من حقيقة الانفراد بالأحوال، والغربة عن الحق من حقيقة الدهشة فى المعرفة.فآفة غربة الأوطان بمحبة الإخوان وعاقبة العار، وآفة غربة الأحوال اتباع الرخصة في مخالطة الأحوال، وآفة الغربة عن الحق الإشارة إلى حقيقة المعرفة ).
الغربة في اللغة : البُعد عن الأوطان وفي الكليات : الغريب : كل شيء فيما بين جنسه عديم النظر فهو غريب.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم :( بَدَأَ الدينُ غَرِيبًا ، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ ) .
الغربة عند الصوفية : ترك المألوفات ومغادرة العادات والانقطاع والعزلة. قال ابن عطاء الله في لطائف المنن : الزاهد غريب في الدنيا؛ لأنَّ الآخرة وطنه، والعارف غريب في الآخرة؛ فإنه عند الله... الزاهد يكشف له عن ملك الآخرة فتبقى الآخرة موطن قلبه ومعشش روحه فيكون غريباً في الدنيا. والعارف غريب في الآخرة فإن كشف له عن صفات معروفه فأخد قلبه فيما هناك فصار غريباً في الآخرة لأن سره مع الله.
قال : ( غربة عن الأوطان، فالغربة عن الأوطان من أول حقيقة القصد، فآفة غربة الأوطان بمحبة الإخوان وعاقبة العار ) .
قال الكلاباذي : عن سبب تسمية الصوفية بالغرباء : فلخروجهم عن الأوطان سُمُّوا غرباء أي لأنهم تركوا أوطانهم، وأسباب غربة الصوفي عن وطنه كثيرة منها : الرياضة والسياحة، ومنها : سكن مناطق العزلة مثل البراري، ومنها : البحث عن الشيخ المرشد النقي الذي يأخد بيده. وفي الوطن الثاني الذي استقر فيه يدعى غريباً.
وحقيقة الأمر عند الصوفية أن الوطن عند الصوفية وطن العبد وحيث انتهى به الحال واستقر به القرار.
إلا أن السالك فى بداية أمره يجد فى الغربة عن الأوطان غربة حقيقة وهذه الغربة قد تكون ضرورية لإخراجه عن المألوف والمعتاد وترك الإخوان فهي في البداية (من أول حقيقة القصد) أي أنها غربة مقصودة.
وآفة هذا المقام حنينه وحبه للأهل والإخوان والتخوف من عقوبة العار في ترك الوطن والإخوان وصار ينعت "الغريب" في الوطن الآخر.
قال : (وغربة عن الأحوال، والغربة عن الأحوال من حقيقة الانفراد بالأحوال، وآفة غربة الأحوال اتباع الرخصة في مخالطة الأحوال ).
الغربة في الأحوال عند الكمشخانوي : إيثار المحبوب بالهجرة إليه عشقاً. والإعراض عما سواه. أما الغربة عن الأحوال : فهي التفرد بالأحوال. ولا تتطابق غربتان في ظهور أحوالها بما يصدر عن هذه الأحوال فإن كانت غربته عن الجهل صار حاله نوراً ومن كانت غربته عن الدنيا صارت خلوته مع الله وهكذا. وحاله يأخد لون وذوق غربته.
وآفة هذه الغربة في التفرد بالأحوال (اتباع الرخصة في مخالطة الأحوال).
وهذا كلام دقيق لمجرب تقلب في الأحوال والمقامات لأن قلة من يعرف المخالطة في الأحوال نوجزها : حال الرجا وحال الخوف : متباعدان. حال الرجا من البسط بعكس حال الخوف من القبض، الأول قد يولد عنه الأمن والتمنى وهو حال مرفوض مثلما حال الخوف يورث القنوط وهو محرم لذلك مخالطة الحالين في موازنة بين الرجا والخوف مطلوب وهذه المخالطة فيها "رخصة" تستند على رخص نقلية وأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
نعود فنقول الآفة هنا عند تفرده بالأحوال أن يقوم بمخالطة الأحوال متبعاً تقليد الرخص فيخلط بين أحوال لا تختلط أساساً لعدم تجانسها، لعدم وجود رخصة فيها متعذراً بوجود رخص لأحوال أخرى وهذه آفة.
قال : (وغربة هن الحق، والغربة عن الحق من حقيقة الدهشة في المعرفة. وآفة الغربة عن الحق الإشارة إلى حقيقة المعرفة).
وسر هذا المقام الدهش: لأن هذا الدهش: هو بهتة تأخذ العبد إذا فاجأه ما يغلب عقله أو حيرة. ويتولد الدهش من العظمة والهيبة والتحير في صفات الله تعالى.
قال القشيري :الدهش فهيبة من المحبوب تصدم قلوب المحبين.
أما الخراز في كتاب الصفاء قال: مقام القرب: الدهشة من طوارق الهيبة، والبهتة من دوام الإجلال..وأكثر الأقوياء من العارفين هم عند حقائق القرب يصيحون ويدهشون ولا يدرون ما وردوا عليه لأنهم مدهوشون في ذلك المقام.. فإذا أفاقوا من دهشتهم تحيروا بما وردوا عليه فيما أذن لهم فهو مع الله بلا وجود.. لا يعرف صناع اسمه".
والنص واضح دهشة يفقد معها كل شيء فهو في غربة بسبب الدهشة، ثم تتلوها حيرة من الله سبحانه وتعالى. وتلك الغربة عن الحق تحققت مع القرب والمعرفة.
آفة هذا المقام: الإشارة: والإشارة إيماءة وقد لا تتعلق بالله سبحانه وتعالى.
لذلك فإن تلقي إشارة واردة واعتبارها من حقيقة المعرفة يؤدي إلى خلط المعرفة الأولى التي تحققت بالدهش من القرب وهذه آفة.
** ** **
أبواب التصوف (مقاماته وآفاته)
بواسطة محمد ابن سيدنا عبد القادر الكيلاني