آخر الأخبار

جاري التحميل ...

المتصوّفة.. أبناء الوقت

لا يبدو التصوّف كإرث إنسانيّ عريق يضرب بجذوره عميقاً في التّاريخ، ممارسة مفردة وأحاديّة، إذ كان دوماً أسلوب حياة ومنهج إقامة وعبور في هذه الحياة الدّنيا. وإذ اعتبره المتصوّفة المسلمون القلب النّابض للإسلام، فإنّهم قد استلهموا وتمثّلوا في سلوكهم الرّوحيّ هذا الحديث للرّسول: «لا تسبّوا الدّهر فإنّ اللّه هو الدّهر». وبهذا المعنى استطاعوا، وبعيداً عن كل شكل من أشكال التعصّب، مواءمة محتوى خطابه مع كل سياق زمني تشكّل فيه هذا الخطاب، دون المساس بنصاعة روحه.

لئن كان معين ماء المعرفة واحداً، فإنّ الأزهار التي يولّدها وينمّيها تكون بالضّرورة مختلفة وشديدة التنوّع، تبعاً لطبيعة التّربة التي يغذّيها ذلك الماء. وكذا الشّأن بالنّسبة إلى التصوّف، حيث يرى المتصوّفة أنّ الحقيقة واحدة، وإن تشعّبت السّبل إلى اللّه، وتعدّدت وتنوّعت صيغ الخطاب الصّوفي. وبهذا المعنى.. تمّ التّلميح إلى المتصوّف على أنّه «ابن الوقت».. الوقت بما ينطوي عليه من معانٍ.. أي.. الزّمان، العصر أو اللحظة العابرة.

تجرّد وتوجّه

جاء القرآن داعياً المؤمنين إلى تدبّر العلامات التي أودعها اللّه في السّماوات وفي الأرض وفي سرّ الإنسان: «سنُريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتّى يتبيّن لهم أنّ الحقّ». ولفكّ أسرار تلك العلامات، يتشوّف الصّوفي في معيشه اليوميّ وسلوكه الرّوحيّ دوماً إلى استكشاف وملامسة تلك الأسرار، حتّى يدرك مستوى من الصّفاء، يجعل الوحي عبر حالات من الإلهام، يتحقّق بداخله في أيّما لحظة.
عندما نريد من المرآة أن تعكس بصورة كليّة نور الشّمس، لا بدّ لنا من عمليّتين متلازمتين: أن نقوم بصقل المرآة أوّلا ثمّ أن نوجّهها نحو الشّمس. وذلك تحديداً ما يسعى إليه المتصوّف، الذي يبادر قبل كلّ شيء بصقل مرآة قلبه، فيعمل جاهداً على التجرّد من الصّور العابرة، أي من كلّ الصّور التي لا وجود فيها للّه، حتّى يصل إلى درجة من التجرّد والنّقاء والصّفاء الرّوحانيّ، تسمح للنّور الإلهي من التسلّل بداخله والانعكاس على مرآة قلبه.
وقد أخبرنا أصحاب السّير والشّمائل أنّ الرّسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، لم يكن له أيّ ظلّ لا في الشّمس ولا في القمر، إذ الظلّ نوع من الظّلمة، وكيانه (صلّى اللّه عليه وسلّم) نورانيّ. ولصقل مرآته وتوجيهها، يحاول الصّوفيّ أن يكون حاضراً بأجمعه وبشكل كامل في الحضرة الإلهيّة، مستبعداً كلّ ما قد يلهيه أو يذهله عن قدسيّة تلك الحضرة، حتّي يتوارد على قلبه النّور، وتنحسر بداخله ظلمة النّفس.
وفي أيّامنا هذه التي غدا فيها نظام المجتمع يعمل على تسلية الأفراد بوسائل مثيرة مثل التّلفزة، التي تمطرهم بوابل من الصّور، فإنّه لمن اليسير إدراك أهميّة هذا الحضور الذي نتحدّث عنه هنا، أي ذلك الجهد الثّابتي الموتّر على ما هو جوهريّ، الذي ينقل الصّوفي إلى إحساس آخر بالزّمن، وبالتّالي على رؤية أخرى للحقيقة ذاتها.

وفي الإدلاء بالشهادة في الإسلام، التي تستخدم في الطّرق الصّوفيّة كإحدى الصّيغ الرّئيسيّة للذّكر، تتجسّم تلك الحركة المزدوجة التي تقوم على الصّقل ثمّ التوجّه. إنّها في جزئها الأوّل إقرار بالقلب بأن «لا إله إلاّ اللّه»، ويعني ذلك: نفي استحقاق العبادة عن كل ما سوى الله تعالى، وإثباتها لله عز وجل وحده دون سواه، قال الله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) الحج، فـ(لا إله) تنفي جميع ما يُعبد من دون الله، وفي الجزء الثّاني من هذه الشّهادة أي (إلاّ اللّه) يكتمل معنى التّوحيد، إذ تُثبت جميع أنواع العبادة لله وحده وتقرّ بأنّه لا معبود حقّاً إلا الله، فكما أن الله تعالى ليس له شريك في ملكه، فكذلك.. لا شريك له في عبادته.. سبحانه. 
وهنا يتعلّق الأمر أيضاً بالتخلّص من كلّ الصّور والأوثان كيما تنفتح سبل التوجّه إلى اللّه. ومفهوم صفاء القلب، ذلك الوعاء المعدّ لاستقبال النّور الإلهي، يمكن أن توازيه بُتُوليّة مريم العذراء أو أميّة الرّسول. وفي كلتا الحالتين، فإنّ صفاء المرآة هو الضّامن لنقاء الصّورة المنعكسة في القلب، وبالتّالي انتقال الكلمة الإلهيّة إليه. والحال أنّ الكلمات لا تندمغ بشكل دقيق وواضح إلاّ على سطح بالغ الصّفاء. 

الشّرق والغرب 

ترتبط شعائر الإسلام بشكل وثيق بحركة الكواكب في السّماء، وبالنّظر إلى ارتباطها بالتّقويم القمري، فإنّ نفس الشّعيرة الدّينيّة يمكن أن تتحدّد عبر الزّمن في فترات مختلفة من السّنة الشّمسيّة، فيحدث أن يكون شهر رمضان حسب السّنوات في قلب فصل الشّتاء أو في قلب فصل الصّيف. وبنفس الكيفيّة، ولكن في علاقة بالتّقويم الشّمسي، فإنّ مواقيت الصّلاة اليوميّة لا تنفكّ تتغيّر عبر الفصول، إذ تميل الفوارق في التّوقيت بين الصّلاة والصّلاة التي تليها إلى الاتّساع صيفاً، لتضيق أكثر فأكثر في فصل الشّتاء. كلّ هذه الاعتبارات تسهم في تثبيت المسلمين في رؤية كونيّة للزّمن، رؤية ذات طابع دوريّ بَيّن للجميع.

وعلى العكس من ذلك، اعتادت مجتمعاتنا الغربيّة على رؤية خطيّة للزّمن، متميّزة بمناسك محدّدة بصورة نهائيّة وفي تواريخ ثابتة، حتّى إنّنا لنخال تلك المناسك مأسورة ومقيّدة بدقّات النّواقيس والسّاعات الجداريّة وساعات اليد والسّاعات الدقّاقة.. التي تحيط بنا. وإنّه لأمر لافت في هذا الخصوص أن نكون قد ذهبنا إلى حدّ اختيارنا ساعة للصّيف وأخرى للشّتاء. وإذا بدا الإنسان في الشّرق مذعنا للزّمن، فإنّ الغرب الحديث يزعم أنّ الزّمن رهن يديه، كما لو أنّه يريد بذلك التحرّر من سطوته. فليس من الغريب إذن، وباعتبار هذا التصوّر، أن يُتّهم المشارقة بالجبريّة من قبل الكتّاب وزوّار الشرق من الغربيّين.

ويوضّح تيتوس بورك آرت أنّ «سرّ الرّوحانيّة الإسلاميّة يكمن في عبوديّة فطريّة وأنطولوجيّة للإنسان في علاقته باللّه، إذ بقدر ما يسلم المسلم نفسه للّه، بقدر ما يتكفّل به الّله، وبقدر ما يفرغ ذاته من الصّور الزّائفة، بقدر ما يحلّ بداخله، وبقدر ما يكون قانتاً ومخبتاً.. يرفعه إليه». وبعيداً عن كلّ اعتبارات جبريّة، فإنّ الأمر يتعلّق هنا باعتماد موقف فاعل، دون التعلّق بنتيجة ذلك.

وإنّه لمن الضّروريّ بالنّسبة إلى المتصوّفة، أن نعمل في اتّجاه ما نشعر بأنّه هو الحقّ، بدل القبول سلفاً بأن تكون نتيجة ذلك العمل مختلفة عن تلك التي كنّا نتوقّع. ويقول ابن عطاء: «الغافل إذا أصبح ينظر ماذا يفعل، والعاقل ينظر ما يفعل اللّه به»، ثم ّ يضيف:«لا أغفل من ذلك الذي يريد أن يُحدث في اللّحظة التي تمرّ شيئاً آخر غير الذي سرى فيها مراد اللّه».

حدس واستنباط 

يتوق الصّوفيّ إذن إلى معرفة اللّه بطريقة حدسيّة، أي أن تكون معرفته تلك مباشرةً وبلا واسطة. والحال أنّه، وكما أشار إلى ذلك تيتوس بورك آرت: «لا يكون التّفكير قادراً على التّوليف إلاّ متى تجرّد من المظهر المباشر للأشياء». فحتّى نتفكّر في أمر ما، لا بدّ لنا أن نظلّ على مسافة ما من ذلك الأمر، وهو ما لا تتيحه لنا التجربة المباشرة. وهذا التّناقض الطّبيعي ما بين العقل، بالمعنى الغربيّ الحديث لكلمة «عقليّ»، والحدس الرّوحانيّ، يمكن أن يُعكس ويصبح بذلك مفتاحاً للترقّي الرّوحانيّ. وبالفعل، فحتّى نُفقد «الفكريّ» تركيزه، ينبغي فصله عن الزّمنيّة التي يستند إليها، لا بمعنى هدم للبنية النّفسيّة حيث تزول كلّ علامة زمنيّة، ولكن بمعنى تركيز الانتباه على اللّحظة.

ولتجسيم ذلك.. يروق للمتصوّفة سرد حكايات مثل حكاية الصّوفيّ والنّحويّ، فبينما كان هذان الشّخصان على متن زورق، سأل النّحويّ الصّوفيّ: هل درست النّحو؟ وحين أجاب الصّوفيّ بالسّلب، قال النّحويّ: أرى أنّك في هذه الحال قد فقدتّ نصف حياتك، مبيّناً بذلك الأهميّة التي يوليها لهذا العلم. وحينها سأل الصّوفيّ النحويّ: هل تعلّمت السّباحة؟ ولمّا أجاب النّحويّ بـ«لا»، قال له الصّوفيّ بكلّ بساطة: أرى في هذه الحال أنّك فقدتّ حياتك بأكملها، لأنّني أرى أن الزّورق يغرق.

لا يتعلّق الأمر هنا بمعرفةٍ تنبثق من العقل. ويمكن أن نشير في هذا الصّدد إلى إجابة بعث بها الشّيخ الأكبر محيي الدّين بن عربي إلى عالم دين مرموق أكّد له اكتشافه لاثنتين وسبعين حجّة قاطعة على وجود اللّه: «لو عرفته حقيقةً، لم تكن لتبذل كلّ هذا الجهد لإثبات وجوده».

فحقيقة التجربة المعيشة لا تستدعي أيّ حجّة. ويضيف ابن عطاء قائلاً: «ما أطول المسافة بين ذلك الذي يتحقّق به، وذلك الذي يعمل على إثبات وجوده.. فالأوّل يقرّ الحقيقة حيث هي، ويعترف بكلّ شيء من منطلق مبدأ أنّه موجود، أمّا الثّاني، الذي يعمل على إثبات وجود اللّه، فكم يغدو بعيداً عنه. وإلاّ.. فمتى كان اللّه غائباً، حتّى نحتاج إلى إثبات وجوده؟ ومتى كان بعيداً حتّى تكون الكائنات هي السّبيل إلى معرفته ؟ وكم تبدو كلمات الحلاّج بليغة في هذا الصّدد حين قال:
وأيّ أرض تخلو منك حتّى 
تعالوا يطلبونك في السماء
تراهم ينظرون إليك جهراً 
وهم لا يبصرون من العماء
ويختلف الحدس الرّوحانيّ من حيث طبيعته عن الاستنباط العقليّ، ويفسَّرُ هذا الاختلاف في الفهم بالتّمييز الذي يقيمه المتصوّفة بين المعرفة المجرّدة البسيطة والمعرفة الحقيقيّة، فعلى عكس العلماء، تظلّ لغة المتصوّفة هي لغة الرّؤيا والكشف، لا لغة تحليل وتوليف، والعلوم التي يتوقون إليها حقيقة هي: «علم اليقين»، «عين اليقين» و«حقيقة اليقين».
لنفترض الآن أنّنا لم نرَ البحر قطّ، وأنّ أحداً ما وصفه لنا، فهل سنظفر بفكرة ما عنه؟ ولكن لو شاهدناه يوماً بأمّ العين، ألن نظفر في هذه الحالة برؤية دقيقة عنه، فنغدو بذلك قادرين على وصفه والتعرّف عليه. ومع ذلك، فنحن لن ندرك كلّ الحقيقة عن البحر إلاّ متى انغمرنا بكليّتنا في مياهه. وبنفس الطّريقة، تظلّ المعرفة الحقيقيّة رهينة التّجربة المباشرة، وبهذا المعنى يوصف التصوّف على أنّه «علم الذّوق والحال».
ويستند المتصوّفة إلى حديث جبريل لبيان مقاصد السّلوك الصّوفي. ووفقاً لهذا الحديث يتبيّن أنّ مرتبة الإحسان هي المرتبة الأسمى التي يجهد المتصوّفة من أجل بلوغها، وهي «أن تعبد اللّه كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك».

المتصوّف ابن الوقت 

لقد بيّنا في ما سبق أنّه للتخلّص من التّفكير ومن التّساؤلات المربكة الدّائمة للعقل، يعمل الصّوفيّ على تركيز وعيه على اللّحظة العابرة في كامل امتلائها. وفي كنف الصّمت الرّوحيّ والتّركيز القلبيّ، ينتهي إلى استكشاف الحضور الربّانيّ في كلّ ما يحيط به، وما يستكنّ في الأشياء من علامات الرّحمة.

فما يراه أغلب النّاس مجرّد مصادفات تغدو بالنّسبة إلى المتصوّف علامات بارقة من لدن مولاه، فيحمله ذلك شيئاً فشيئاً على «الاستغناء»، الذي يلمّح إليه ابن عطاء في إحدى حكمه: «أرح نفسك من التّدبير، فما قام به غيرك عنك لا تقم به لنفسك».
ومن جانبه، كتب فوزي الصّقلي في «علامات من نور»: «ما أنت تعرفه بات في عداد الماضي، وما أنت بحاجة إلى معرفته لم يأتِ بعد. لِتدعْ قلبك يتلقّف المعرفة التي ستأتيك في أوانها». ثمّ كانت له هذه الأبيات: « إيه أيّها الصّديق.. توقّف عن الخوض في لماذا وكيف.. ورفقاً بروحك التي بين جنبيك.. فحيث أنت، وفي هذه اللّحظة، كلّ الأشياء موهوبة لك، وهي على درجة تامّة من الكمال.. تقبّل هذا الخير واعصر شراب اللّحظة التي تمرّ.. ».

تناغُم اللّحظة 

لكلّ لحظة تناغمها الخاصّ، تناغُم يكمن في ملء اللّحظة بالأعمال الخيّرة. وفي هذا الصّدد يؤكّد ابن عطاء أنّ «عوائد الأعمال الموقوتة يمكنك تداركها، ولكن لا سبيل إلى أن تتدارك عوائد اللّحظة». وهكذا فإنّ ما تستلزمه اللّحظة منّا أهمّ بكثير ممّا قد نكون قد توقّعناه أو بُرمجنا له، كما يظهر ذلك بجلاء في مثال السّفينة التي تغرق.

وحين يستمسك الصّوفيّ بأولويّة الرّوح على حساب المقول، سوف يعرف كيف يغيّر منهجه وبرنامجه إن اقتضى الأمر ذلك. وينسحب ذلك أيضاً على الفروض الشّعائريّة، فلئن كانت الصّلاة دائما قابلة للتّدارك، فإنّ واجب حسن الوفادة يقتضي التّعجيل بالاستجابة إلى حاجات الضّيوف حين يحلّون.

ويتحدّث المتصوّفة عن «سيف» الوقت، ويرون بأن «الوقت قد يكون معك وقد يكون ضدّك، وأنّ كلّ نَفَس يمضي لا سبيل إلى تعويضه، وكلّ نَفَس يأتي له احتياجاته». ومتى نظرنا إلى تلك الأحوال على أنّها انعكاس لإرادة إلهيّة، فإنّ الواجبات التي تستتبعها تغدو أهمّ ممّا نرغب فيه. وعلى غرار الوحي ذاته، فإن اللّحظة تبدو كأنّها «فرقاناً» يفصل بين العباد، بين أولئك الذين يلقون السّمع إلى ندائها، وأولئك الذين يصمّون آذانهم دونها. والعاقل هو ذلك الذي يبقى متيقّظاً ومنتبهاً لضرورات اللّحظة، فلا يدعها تمرّ إلاّ يكون قد امتلأ بها.

البعد الخالد للّحظة الصّوفيّة 

لا أبديّة في عالم الشّهادة، ولا سبيل إلى تذوّقها إلاّ في جوف اللّحظة العابرة. فما من لحظة تمرّ إلاّ وتكون طافحة بالحضور الربّانيّ، ولكن العبد هو الذي يكون غائباً فيها، والصّوفيّ متى انغمر في تلك اللّحظة المنفلتة، يكون قد عاش آناً من تلك الأبديّة. وكما يبيّن تيتوس بورك آرت ذلك: « إن كان بالإمكان عبر التذكّر استحضار الماضي في الحاضر، فذلك لأنّ الحاضر ينطوي فعليّا على كلّ امتدادات الزّمن، وهذا هو تحديداً ما يسعى إلى تحقيقه التضرّع الصّوفيّ أو الذّكر، فبدلاً من أن يعود الصّوفيّ أفقيّا إلى الماضي، فإنّه يتخاطب عموديّا مع الماهيات التي تحكم الماضي كما المستقبل». إنّ انغمار الرّوح في عمق اللّحظة يسمح بتجديد روابط الوصل بما هو إلهيّ، وبالتّالي بما هو أبديّ. وحسبنا محو الأنا حتّى ينفرج الوعي وتشعّ بداخلنا من جديد الأنوار الإلهيّة.

هكذا تَبرز غفلتنا مرتبطةً بغيابنا عن اللّحظة، بينما تظلّ المعرفة حاضرة، وفي متناولنا في كلّ آن يمرّ. لذلك نرى ابن عطاء، وهو يقرأ قول اللّه تعالى: «ونحن أقرب إليه من حبل الوريد»، يرسل هذا النّداء الموجع: «مولاي.. كم أنت قريب منّي، وكم أنا بعيد عنك..».

لا بدّ من الإشارة في الأخير إلى أنّ العبارة التي يستخدمها الصّوفي للتعريف بنفسه هي تحديدا «ابن وقته». حينئذ.. لا يتعلّق الأمر هنا بالتّلملم في جوف اللّحظة للإفلات من الماضي أو من المستقبل، وإنّما في أن يُقبل الصّوفيّ طواعية على الانغمار بكليّته في اللّحظة، حتّى يكون أقرب إلى اللّه، وأدنى من المعرفة الموصلة إليه، لا مقصد لديه غير «أن يكون في ظاهره مع النّاس، وفي باطنه مع اللّه». ومن هذا المنطلق، ما يهمّ هو ليس الماضي ولا المستقبل، وإنّما اللحظة المتاحة لنا مع كلّ ما تنطوي عليه من احتمالات. ويجهد المتصوّفة من أجل القيام بما ينبغي لهم في مواجهتهم لكلّ لحظة شاردة، ولعلّ ذلك هو الّذي يمنحهم في أعين الآخرين حضوراً مضاعفاً.

العماء حجاب 

وأيّ أرض تخلو منك حتّى 
تعالوا يطلبونك في السماء 
تراهم ينظرون إليك جهراً 
وهم لا يبصرون من العماء 
{الحلاج} 
أهمية 

في أيّامنا هذه التي غدا فيها نظام المجتمع يعمل على تسلية الأفراد بوسائل مثيرة مثل التّلفزة، التي تمطرهم بوابل من الصّور، فإنّه لمن اليسير إدراك أهميّة هذا الحضور الذي نتحدّث عنه هنا، أي ذلك الجهد الثّابت، الموتّر على ما هو جوهريّ، الذي ينقل الصّوفي إلى إحساس آخر بالزّمن، وبالتّالي على رؤية أخرى للحقيقة ذاتها.

من لا ينتظرون مقابلاً

سرّ الرّوحانيّة الإسلاميّة يكمن في عبوديّة فطريّة وأنطولوجيّة للإنسان في علاقته باللّه، إذ بقدر ما يسلم المسلم نفسه للّه، بقدر ما يتكفّل به الّله، وبقدر ما يفرغ ذاته من الصّور الزّائفة، بقدر ما يحلّ بداخله، وبقدر ما يكون قانتا ومخبتا.. يرفعه إليه. وبعيدا عن كلّ اعتبارات جبريّة، فإنّ الأمر يتعلّق هنا باعتماد موقف فاعل، دون التعلّق بنتيجة ذلك.

كتابة برونو داسّا 
ترجمة أحمد حميدة
.....
المصدر : هنا

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية