لما اجتهد المريد في العمل صار مراداً. طالب القرب من غير عمل مهووس، إنّما بيّنا الأمر على الأغلب لا على النادر. موسى عليه السلام متى قُرِّب ؟ أليس بعد مقاساته للشدائد والمجاهدات. لمّا خرج من دار فرعون هارباً وقاسى ورعى الغنم سنين، بعد ذلك رأى ما رأى. بعد كَمْ وكَمْ حتى قُرِّب. لمّا قاسى الجوع والعطش والغربة وظهر جوهره وعُلِمت رحمته لبنات شعيب جاءه الخير بالمروءة التي كانت قوته على خدمة غنمها؛ لأنه كان جائعاً قد عمل فيه الجوع.
فلما سقى غنمها أفرده الحياء إلى تحت الشجرة، ومنعه من طلب الأجرة على عمله. السابقة سدّدتْهُ وصيانته بصّرته، ونظرات الحقّ عزّ وجلّ رصنته، وأنطقته بالسؤال لربّه عزّ وجلّ حتى قال :{ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } فبينما هو كذلك إذ جاءت بنت شعيب خلفه فحملته إليه، فسأله عن حاله، فأخبره بقصته جميعها، فقال : { لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }. ثم زوجه ابنته واستأجَره لرعي الغنم، فنسي مُلك فرعون ودلاله الذي كان فيه. لَبِس لُبْس الرعاة وكان الليل والنهار مع الغنم، قعد مع من لا ينطق في البرية القفراء، تعلم الزهد والخلوة عن الخلق؛ فتطهَّرَ قلبه منهم، وانحكم أمره في تلك السنين، ذهب مُلك فرعون من قلبه، وخرجت الدنيا بجميع ما فيها من سره. فلمّا قضى الأجل الذي كان بينه وبين شعيب عليه السلام عُتق ظاهره من العهد الذي كان عليه، وبقي عهد الله عزّ وجلّ وحقّه على قلبه وسرّه، فلمّا ودّعه وأخد زوجته وسارثلاث فراسخ من مدين أدركه الليل، وكانت زوجته حاملاً، فضربها الطلْق، وطلبت منه ضوءاً تستضيء به، فأخد الزَّند ليقدح، فلم يخرج منه شيء، وأعتَم عليه الليل، واشتدّ ظلامه فجاءته الحيرة من كل جانب، وضاقت الدنيا برحبها عليه، بقي غريباً وحيداً في طريق لا يعرفه وامرأته في ذلك الكرب الذي هي فيه، فوقف على علو من الأرض ينظر يميناً وشمالاً ووراء وأماماً حتى سمع صوتاً ورأى ناراً من جانب الطور. فقال لزوجته : اسكني فقد رأيت ناراً، فلعلي آتيك بقبس وأستعلم من أهلها خير الطريق، فلما أتاها نودي. لما قرب منها وأراد أن يأخد منها شعلة، انقلب الأمر، ذهبت العادة وجاءت الحقيقة، نسي الأهل ومصالحهم، وجاء إلى زوجته مَن أكرمها وهيّأ أمورها، وجاءها بما يصلحها، نودي مناداة مناد، خاطَبه مخاطب، كلّمه متكلِّم، وهو الحقّ عزّ وجلّ، بلا واسطة من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجر، صارت الشجرة قِبَلَه، قال يا موسى { إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } أي لست بملك ولا جني ولا إنسي، بل ربّ العالمين، أي كذّب فرعون في قوله : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ } وفي ادعائه الإلهية دوني، أنا الله فقط ما له فرعون وغيره من الخلق : الجن والإنس والملك وجميع المخلوقات من العرش إلى تحت الثرى! عالِم زمانك وعالِم ما يأتي بعدك إلى يوم القيامة؟!
هذا القلب إذا صفا وصحّ سمع مناداة الحقّ عزّ وجلّ من جهاته الست، يسمع مناداة كل نبي، ورسول، وولي، وصدّيق، فحينئذ يقرّب منه، فتصير حياتُه القربَ منه، وموتُه البعدَ عنه، يصيررضاه في مناجاته له، ويقنع بذلك عن كل شيء، لا يبالي بذهاب الدنيا عنه.
المريد طالب، والمراد مطلوب، كان موسى عليه السلام مريداً ونبيّنا صلى الله عليه وآله وصحبه مُراداً. بقي موسى في ظلّ وجوده وطلبه لرؤيته على جبل طور سيناء، ونبينا صلى الله عليه وآله وسلم لمّا كان مُراداً أعطي الرؤية من غير طلب، وقرِّب من غير شوق وسؤال، أغني من غير طلب اللقاء، وأري ما حجب عن غيره. طلب موسى عليه السلام الرؤية فلم يُعط، ووقع ميتاً عقوبة لطلبه ما لم يُقْسم له في الدنيا. ونبينا صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أحسَن أدبه وعرَف قدره وتجاهد وتواضع ولم يتبسّط، فأعطي ما لم يعط غيره لنسيانه غير الحقّ عزّ وجلّ وموافقة له.
ماشاء الله رضي الله عن الباز الاشهب .واعلم بأن طريق القوم دارسة وحال من يدعيها اليوم كيف ترى .نشتاق للمريد الذي لايريد الا الله .وللمراد الذي يحبه الله
ردحذف