اعلم يا فقير أن نسبة الله واسعة وضيقة، أوسع من دائرة الدنيا، وأضيق من سم الخياط: واسعة على من دخلها بالنية والصدق، وضيقة على من دخلها بالغش والخيانة والكذب.
من دخلها بالنية والصدق أعطته ما عندها من الخيرات حتى تكون الأكوان كلها له شيخاً، أينما توجه ظفر بالصواب حتى إنه إذا التبس عليه الأمر ولم يهتد إلى الصواب قيض الله له من يرشده ولو على يد العدوّ كما جرت سنّة الله في خلقه مع أرباب الصدق.
ومن دخلها بالكذب والخيانة وكان فيها منافقاً يُظهر لأهل النسبة خلاف ما يبطن، مهّدت له النسبة ووسّعت عليه في الجولة حتى إذا بلغ النهاية في الغلوّ والنفاق ضيّقت عليه الفجاج وأوقعته في الضيق والحرج وسدّت في وجهه جميع المسالك وفُتحت له أبواب المهالك، فما توجه لأمر إلاّ صادفه الخدلان ولا تحرّك في طلب شيء إلاّ قابله الحرمان، جزاءً وفاقاً، لأنه لمّا دخل النسبة بصفة التلبيس عادته عليه سريرته وانقلبت عليه حلّته، لأنّ الحق جلّ جلاله يجازي كل واحد بوصفه وسريرته كما قال سبحانه :{سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} وقال صلى الله عليه وسلم :"من أسرّ سريرة ألبسه الله رداءها". فالإنسان لا تعود عليه إلا سريرته وطويّته ونيّته. وهذا الإنسان لما دخل بوصف النفاق كان مستهزئاً بأهل الله، والمستهزئ بأهل الله مستهزئ برسول الله صلى الله عليه وسلّم والمستهزئ بالنبوة مستهزئ بالالوهية والمستهزئ بالالوهية لا محالة أن الله يأخده في قريب.
وتأمّل يا فقير ما ذكر الله في صفة المنافق وما أوعده به إذ قال سبحانه :{ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ }. ثم ضرب لهم المثل بقوله :{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ }. ومن كان هذا حاله فهو يا أخي أسوأ حالاً من الكافر لأن الكافر تمخض حاله إلى جهة واحدة وهذا صار ذو وجهين، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيهاً". ولذلك أخبر الله في كتابه أنّ المنافق في غاية العذاب بقوله :{ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا }. وهذاالفقير إن دام على هذه الحالة لا أرى له خلاصاً إلا أن يجدّد التوبة ويقبل على الله بنعت الاستغفاروالاعتصام بحبل الله والإخلاص في أقواله وأفعاله وأحواله لقوله تعالى: { إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ }، وإذا أُلحق برتبة المؤمن فعند ذلك يحظى بالتقوى، وإذا أُعطي رتبة التقوى فإنّ الله يمنحه رتبة الصدق. فتأمّل يا فقير أسرار هذا الربّ الكريم كيف جعل النسبة إليه فلاحاً لقوم وضلالاً لقوم، أسعد بها أقواماً وأشقى بها أقواماً، خدلَ أقواماً وهدى أقواماً، رحم بها أقواماً وعذّب بها أقواماً، { إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ }.
فظهر لك أيها الفقير أنَّ الربح بيدك والخسارة بيدك، الصدق صفتك والكذب نعتك ولا تُجازى إلا بوصفك ونعتك، { مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا } ، { وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا } فشمِّر يا فقير، فإنّ الخير قد أتى إليك ولم تشعر، فها أنا قد نصحتك، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والسلام.