قال سيدي عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه : افنَ عن الخلق بحكم الله عزّ وجلّ، وعن هواك بأمر الله تعالى، وعن إرادتك بفعل الله تعالى، فحينئذ تصلح أن تكون وعاءً لعلم الله.
فعلامة فنائك عن خلق الله تعالى انقطاعك عنهم، وعن التردّد إليهم ، واليأس مما في أيديهم.
وعلامة فنائك عنك وعن هواك ترك التكسُّب والتعلُّق بالسَّبب فيجلب النّفع ودفع الضُّرِّ ، فلا تتحرّك فيك بك ، ولا تعتمد عليك لك ، ولا تنصر نفسك ، ولكن تَكِلْ ذلك كلَّه إلى من تولاّه منك أوّلاً فيتولاّه آخراً ، كما كان ذلك موكولاً إليه في حال كونك مغيَّباً في الرَّحم ، وكونك رضيعاً طفلاً في مهدك .
وعلامة فناء إرادتك بفعل الله عز وجلّ أنّك لا تريد مع إرادته مراداً قطُّ ، ولا يكون لك غرض ، ولا تقف لك حاجة ولا مرام ، لأنّك لا تريد مع إرادة الله تعالى سواها ، بل يجري فعل الله تعالى فيك ، فتكون أنت إرادة الله تعالى وفعله ، ساكن الجوارح ، مطمئن الجنان ، مشروح الصَّدر ، منوَّر الوجه ، عامر الباطن ، غنيّاً عن الأشياء بخالقها ، تقلِّبك يد القدرة ، ويدعوك لسان الأزل ، ويعلّمك ربُّ الملك ، ويكسوك نوراً {من نوره وإجلالاً منه } ، ويلبسك الحلل ، وينزلك منازل من سلف من أولي العلم الأول ، فتكون منكسراً أبداً ، فلا تثبت فيك شهوة ولا إرادة ؛ كالإناء المنثلم الذي لا يثبت فيه مائع وكدر أبداً فتنبو عن الأخلاق البشريّة ، فلن يقبل باطنك ساكناً غير إرادة الله تعالى . فحينئذ يُضاف إليك التّكوين وخرق العادات ، فيُرى ذلك منك في ظاهر العقل والحكم ، وهو فعل الله تعالى وإرادته حقّاً في العلم ، فتدخل حينئذٍ في زمرة المنكسرة قلوبهم ، الذين كسرت إرادتهم البشريّة ، وأُزيلت شهواتهم الطبيعيّة ، واستوثقت لهم إرادةٌ ربّانية ، وشهوات إضافيّة ، كما قال النبيُّ صلى تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم : {حُبِّبَ إليَّ مِن الدنيا ثلاثٌ : النِّساءُ ، والطّيبُ ، وجُعِلَ قُرَّةَ عَيْنَيء في الصَّلاةِ } فأَضيف ذلك إليه بعد أَن خرج منه وزال عنه تحقيقاً لِما أشرنا إليه وتقدّم .
قال الله عزّ وجلّ : { أَنا عِنْدَ المُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهم مِنْ أَجلي }.
فالله تعالى لا يكون عندك حتى تنكسر جملتك وهواك وإرادتك ، فإذا انكسرت ولم يثبت فيك شيء ، ولم تصلح لشيء سواه أَنشَأَك له ، فجعل فيك إرادة ، فتريد بتلك الإرادة ، فإذا وجدت في تلك الإرادة المنشأَة فيك ، كسرها الربُّ تعالى لوجودك فيها ، فتكون منكسر القلب أبداً ، فهو عزّ وجلّ لا يزال يجدّد فيك إرادة ، ثمّ يُزيلها عند وجودك فيها ، هكذا إلى أن يبلغ الكتاب أجله ن فيحصل اللِّقاء .
فهذا هو معنى : عند المنكسرة قلوبهم من أَجلي .
ومعنى قولنا {عند وجودك فيها } : هو ركونك وطمأنينتك إليها . قال الله عزّ وجلّ في بعض ما يذكره عنه نبيّه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلّم : (َلاَ يَزَالُ عَبْدِيَ المُؤمِنُ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا ، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا } وفي لفظ آخر " فبِي يَسْمَعُ ، وبِي يُبْصِرُ ، وبي يَبْطِشُ ، وبي يَعْقِلُ " .
وهكذا تكون حالة الفناء ولا غير ، { وهو أَنْ تفنى عنكَ } ، فإذا أُفنيتْ عنك وعن الخلق ، والخلق إنّما هو خيرٌ وشرٌّ ، وكذلك أنت خير وشرٌّ ، فلِم ترجو خيرهم ولا تخاف شرَّهم ، بقيَ الله عزّ وجلّ وحده كما كان قبل أن يخلقك وحده ، ففي قدر الله خير وشرٌّ ، فيؤمنك من شرِّه ويغرقك في بحار خيره ، فتكون وعاء لكلِّ خير ، ومنبعاً لكلِّ نعمة وسرور وحبور ونور وضياء وأمن وسكون .
فالفناء هو المُنى والمُبتغى والمُنتهى وحدٌّ ومردٌّ ينتهي إليه سير الأولياء ، وهو الاستقامة التي طلبها من تقدّم من الأولياء والأَبدال رضي الله عنهم ، أنْ يفنوا عن إرادتهم ، فتُبدَّل بإرادة الحقِّ عزَّ وجلَّ ، فيريدون بإرادة الحقِّ أبداً إلى الوفاة ، فلهذا سمّوا أبدالاً رضي الله تعالى عنهم .
فذنوب هؤلاء السّادة أن يشركوا إرادة الحقِّ عزّ وجلّ بإرادتهم على وجه السَّهو والنِّسيان وغلبة الحال والدّهشة ، فيدركهم الله تعالى برحمته باليقظة والتّذكرة ، فيرجعون عن ذلك ويستغفرون ربّهم عزّ وجلّ ، إِذ لا معصوم عن الإرادة إِلاّ الملائكة ، فالملائكة عُصِموا عن الإرادة ، والأنبياء عُصِموا عن الهوى ، وبقيّة الخلق من الإنس والجنّ المتكلّفين لم يُعصموا منهما ، غير أنّ الأولياء يُحفظون عن الهوى ، والأبدال يحفظون عن الإرادة ، ولا يُعصمون منهما ، على معنى أنّه يجوز في حقِّهم الميل إليهما في بعض الأحيان ، مَّ يتداركهم الله عزّ وجلّ باليقظة برحمته .
** ** **
آداب السلوك و التوصل الى منازل الملوك.
التأليف : الشيخ عبد القادر الجيلاني.