{ والمعرفة على ثلاثة مقامات : معرفة الفطرة ومعرفة الزيادة ومعرفة الخصوصية. فمعرفة الفطرة معمومة بشرط إثبات التوحيد، ومعرفة الزيادة مثبتة بشرط الإخلاص في الجهد والاجتهاد،ومعرفة الخصوصية عن عين الجود يتبعها بذل المجهود. فآفة معرفة الفطرة التفكر في ذات الله تعالى، وآفة معرفة الزيادة ترك الاجتهاد برؤية عين الحق وذلك حقيقة التمني، وآفة معرفة الخصوصية الدعوى بترك فناء النفس }
المعرفة في اللغة : كل اسم خص واحداً بعينه من جنسه فهو المعرفة.
والمعرفة والعرفان : من السكون والطمأنينة، لأن من أنكر شيئاً توحش منه ونبا عنه، وسمي المعروف لأن النفوس تسكن إليه.
وهو أول فرض افترضه الله على خلقه لقوله تعالى { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } والمعرفة بالدليل الإجمالي فرضعين لا مخرج عنه لأحد من المكلفين وبالتفصيل فرض كفاية لا بدّ أن يقوم به البعض.
وعند أبي البقاء مقارنة بين العلم والمعرفة. ذكر فيها :
العلم :
1 - فيما يدرك ذاته.
2 - العلم ما يصرف وجوده وجنسه وكيفيته وعلته.
3 - العلم في وسائط العلم كلها.
4 -معلومة الشيء.
5 - يقال لحصول صورة الشيء عند العقل.
والاعتقاد الجازم والإدراك الكلي والمركب.
المعرفة
1 - فيما يدرك آثاره وإن لم تدرك ذاته.
2 - يعرف ما كونه موجوداً فقط.
3 - بالتفكر والتدبر
4 - خلاف النكرة بالشيء
5 - تقال للإدراك المسبوق العدم الإدراك الجزئي والبسيط.
وهذا الجدول قابل للنقد من وجهة نظر صوفية لأن إدراك ذات الله سبحانه وتعالى غير ممكنة ولا يحصل العلم بها لأن العلم الإحاطة بالشيء والإحاطة علماً بذات الله مستحيلة فهو جدول للعلوم ما قبل الكشف والمشاهدة وصالح من الناحية اللغوية ولربما لدى أهل علم الكلام فحسب.
أما المعرفة عن السادة الصوفية فهي سمو اليقين عن حد التلقين أو زوال البرهان لكمال العيان أو دثور الريب ظهور الغيب أو سقوط الوهم لوضوح الاسم.
كل هذه التعاريف فيها إحلال للمشاهدة بدل البحث عن الأدلة والبراهين وارتقاء بالإيمان واليقين إلى درجة الاستغناء عن الكلام والأقوال.
وهي نور ومكاشفة باطنية بقلبك على الحقيقة فلا تحتاج معها إلى وصف للأشياء لذلك قيل المعرفة هجوم الأنوار على الأسرار، أو كشف لا يدركه وصف ونعت لا يخلفه كيف.
وكان للخراز باع طويل في باب المعرفة. إذ ذكر:
المعرفة: إنكار كل من ليس له حول ولا قوة ولا قدرة. يعنى من عرف الله جل جلاله بكمال القدرة أسقط عنه الالتفات إلى من ليس له قدرة فهو عارف.
وبهذا المعنى ذكر الكمشخانوي المعرفة:
فهي ما قطعك عن غير الله وردك إلى الله.وحقيقتها : الغنى بالله عن جميع الأنام.
أما عبدالرحمن البكري فقد ذكر في كتابه الأنوار في عالم الأسرار ومقامات الأبرار. الفرق بين العلم والمعرفة عند الصوفية، قال : العلم والحكمة قرينان. والمعرفة واليقين قرينان. وقال : إن عرفت ربك من جهة الإيمان أطعته وإن عرفته من جهة العلم أجللته وإن عرفته من جهة المعرفة أحببته.
وتدرج البكري في درجات العلم والمعرفة قال : الناس كلهم موتى إلا من أحياه الله بالإيمان. وأهل الإيمان في غفلة إلا من أيقظه الله بالعلم. وأهل العلم في حجاب إلا من أوجد المعرفة، وأهل المعرفة في تحير إلا من آواه الحق إلى العلم به. أي : نفي الإحاطة بالذات الإلهية تبدأ بالتوحيد وبالله تعالى وليس لها نهاية.
قال عبد الرحمن البكري : كل أهل الإيمان والعلم في حق، غير أنهم محجوبون عن الحقيقة حتى يجدوا علم اليقين من حقيقة علم التوحيد.
الاختصاص علم التوحيد ومعرفة الله سبحانه وتعالى في أسمائه وصفاته. أما إدراك الذات الإلهية هذا اختصاص إلهي محض. إن أراد اطلاع جانب منه العبد كان بها، وهي من أبواب الكشف والمشاهدة. وإن حجبها وهو الساري، فذلك ليس بمطلب لصاحب المعرفة. وإذا ما تحول إلى مطلب وإصرار صار آفة شغلته عن المعرفة نفسها.
قال :{ ومعرفة الزيادة، معرفة الزيادة مثبتة بشرط الإخلاص فى الجهد والاجتهاد، وآفة معرفة الزيادة ترك الاجتهاد برؤية عين الحق وذلك حقيقة التمني }.
الزيادة على معرفة الفطرة. شرطها المجاهدات والمكابدات والسلوك المقرون بالإخلاص،وآفته عدم السعي الحثيث إلى رؤية عين اليقين التي توصلك إلى عين الحقيقة. والعين لا تحصل إلا بالمكاشفة والمشاهدة والأخيرة لا تحصل إلا بالسلوك والجهد والاجتهاد والترقى فى الأحوال والمقامات.
قال عبدالرحمن البكري: كل من عمل له بهدي العلم ورث حقائق من المعرفة. شرط العمل هنا الجهد والاجتهاد ومع العلم جاءت المعرفة.
وأضاف: نور قلوب العارفين يظهر في اعمالهم ظاهراً وباطناً. فظهر الجد والاجتهاد.. لما كان نور الحقيقة في الناس عموماً - معرفة الفطرة - شهد بعضهم نور بعض بالمعرفة فسلموا بالعلم.
قيل لأبي يزيد: بماذا وجدت هذه المعرفة ؟ فقال: ببطن فارغ وبدن عار أي الجهد والاجتهاد، مع الإخلاص. وقال في مكان آخر : إنما نالوا المعرفة بتضييع حالهم والوقوف مع حاله. قصده فناؤهم فيه ورفضهم التمني.
قال ابن عطاء الله السكندري في لطائف المنن : العارف لا دنيا له لأن دنياه لآخرته وآخرته لربه.
قال :{ ومعرفة الخصوصية، ومعرفة الخصوصية عن عين الجود يتبعها بذل المجهودن وىفة معرفة الخصوصية الدعوى بترك فناء النفس }.
معرفة الخصوصية : خاصة الخاصة من أهل الله أهل المعرفة والعرفان.
قال أبي سعيد الخراز : المعرفة تاتي من عين الجود وبذل المجهود.
عين الجود : من الله سبحانه وتعالى الجواد الكريم وعينها مشاهدتها وكشفها بأنوار القلوب، وبذل المجهود : المكابدات على طريق معرفة الله تعالى.
وخلاصة القول معرفة أهل الخصوصية تأتي من عين منة الله وكرمه على هؤلاء القوم السالكين في دروب معرفته.
أبواب التصوف (مقاماته وآفاته
محمد ابن سيدنا عبد القادر الكيلاني