إذ حقيقة الإخلاص الخُلوص من شهود الأكوان، والدُّخول في مقام الاحسان؛ حتى لو شهد في إخلاصه الإخلاص احتاج في إخلاصه إلى إخلاص؛ إذ الإخلاص أيضاً كون من الأكوان.
فالنظر إليه وشهوده بقاء مع الأكوان، فكذلك كان الإخلاص عزيز المنال، لا ينال ثمة معه إلاّ أكمل من الرجال، حتى قال الحسن البصري رضي الله عنه :{ لو صحت لي ركعتان بالإخلاص لكفتاني }.
وقال صلى الله عليه وسلم :{ من قال لا إله إلاّ الله مخلصاً بها من قلبه دخل الجنّة، فقيل : ما إخلاصها يا رسول الله ؟ فقال أن تحجزك عن المحارم }.
فدلَّ كلامه صلى الله عليه وسلم إذ النفع التام إنما هو في الإخلاص، ومن تحقَّق به خرج عن الأكوان، ومن لازمه عدم المخالفة والعصيان؛ إذ حقيقة المعصية بقاء مع الأكوان من النفس والهوى والشيطان، ومن خرج عن هذه الأشياء كلها كيف يخالف ما أمره به الرحمن.
ولذلك قال الشيخ عبد القادر الكيلاني رضي الله عنه : وعليك بالإخلاص، وهو نسيان رؤية الخلق، ودوام رؤية الخالق، ولا تتهم الله في الأمورن واسكن لإليه في كل حال .
وقال في الحكم العطائية : { الأعمالُ صورٌ قائمةٌ وأرواحها وجود سرِّ الإخلاصِ فيهَا }.
قلت : الأعمال كلها أشباح وأجساد وأرواحها وجود الإخلاص فيها فكما لا قيام للأشباح إلا بالأرواح وإلا كانت ميتة ساقطة كذلك لا قيام للأعمال البدنية أوالقلبية. إلا بوجود الإخلاص فيها وإلا كانت صوراً قائمة وأشباحاً خاوية لا عبرة بها، قال تعالى :{ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ } وقال تعالى :{ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ } وقال صلى الله عليه وسلم حاكياً عن الله تعالى :{ أنا أغْنى الشُّركاء عن الشِّركِ، مَنْ عَمِل عَمَلا أشرك فيه مَعي غيري تركتهُ وشِرْكَهُ } وقال صلى الله عليه وسلم { أَخْوَفَ مَا أَخَافُ على أمَّتي الشركُ الخفيُّ وهوَ الرِّيَاءُ } وفي رواية :{ اتقوا هذا الشركَ الخفيَّ، فإنَّه يَدُبُّ دبيبَ النملِ، قيل : وما الشرك الخفي ؟ قال : الرياءُ }. انتهى بالمعنى لطول العهد به، وفي حديث مسلسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الأخلاص فقال :{ حتى أسألَ جبريلَ، فلما سألَه قال : حتى أسأل ربَّ العزة، فلما سأله قال له : هو سرٌّ من أسراري أودِعُهُ قلبَ من أحببتُ من عبادي، لا يطَّلع عليه مَلَكٌ فيكتبُهُ ولا شيطانٌ فيُفسِدُهُ }.
قال بعضهم : مقام الإخلاص أن تعبد الله كأنك تراه.
والإخلاص على ثلاث درجات :
درجة العوام، والخواص، وخواص الخواص.
فإخلاص العوام : هو إخراج الخلق من معاملة الحق مع طلب الحظوظ الدنيوية والأخروية كحفظ البدن والمال وسعة الرزق والقصور والحور.
وإخلاص الخواص : طلب الحظوظ الأخروية دون الدنيوية.
وإخلاص خواص الخواص : إخراج الحظوظ بالكلية فعبادتهم تحقيق العبودية والقيام بوظائف الربوبية أو محبة وشوقاً إلى رؤيته.
قال الشيخ أبو طالب رضي الله عنه :
الإخلاص عند المخلصين : إخراج الخلق من معاملة الحق، وأول الخلق النفس.
والإخلاص عند المحبين : أن لا يعملوا عملاً لأجل النفس وإلا دخل عليها مطالعة العِوض أو الميل إلى حظ النفس. والإخلاص عند الموحدين : خروج الخلق من النظر إليهم في الأفعال وعدم السكون والإستراحة إليهم في الأحوال.
وقال بعض المشايخ : صحح عملك بالإخلاص وصحح إخلاصك بالتبري من الحول والقوة.
وقال بعض العارفين : لا يتحقق الإخلاص حتى يسقط من عين الناس ويسقط الناس من عينه، فعمل بلا إخلاص شبح بلا روح.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : { إنما الأعمال بالنيات } ، فمن لا نية له صحيخة لا إخلاص له ولا عمل، وأصل ذلك كله قوله تعالى :{ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }.
والحاصل أن روح الأعمال ولبّها ومركز دائرتها وقطبها الإخلاص، فعليك به أيُّها الأخ في سائر أعمالك، وافن عن أقوالك وحولك وقوتك، تشم منه أزكى رائحة، وتمحق فائدتك، ويبقى رأس مالك.