{ ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ } * { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ ٱسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ } * { لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجْوَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَـٰذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ ٱلسِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ }
قال تعالى: " ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ " ، ومعنى اقترابه: دنوه منهم شيئًا فشيئًا حتى يلحقهم لأن كل آت قريب، أي: دنا حساب أعمالهم السيئة الموجبة للعقاب. { وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ } تامة منه، ساهون بالمرة عنه، غير ذاكرين له، لا أنهم غير مبالين به، مع اعترافهم بإتيانه، بل هم منكرون له، كافرون به، { مُّعْرِضُونَ } عن الآيات والنُذر المنبهة لهم عن سِنة الغفلة. { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ } أي: من طائفة نازلة من القرآن، تذكر ذلك الحساب، وتنبههم عن الغفلة عنه، كائن أو نازل { مِّن رَّبِّهِمْ } ، أو ذاكر ومذكر من ناحية ربهم. وفي إضافته إليه سبحانه دلالة على شرفه، وكمال شناعة ما فعلوه من الإعراض عنه، وفي التعبير بعنوان الربوبية تشنيع لكمال عتوهم، ومِنْ صفة ذلك الذكر { مُّحْدَث } تنزيله بحسب اقتضاء الحكمة، بمعنى أنه نزل شيئًا فشيئًا، أو قريب عهد بالنزول، فمعاني القرآن قديمة، وإظهاره بهذه الحروف والأصوات حادث. وقال ابن راهويه: قديم من رب العزة، محدث إلى أهل الأرض. فما ينزل عليهم شيء من القرآن يذكرهم ويعظهم { إِلاَّ ٱسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ } لا يتعظون به، ولا يتدبرون في معانيه، { لاهيةً قلوبُهم } ساهية، معرضة عن التفكر والتدبر في معانيه.
وقال بعضهم : دنا أوان الانتباه وهم فى غفلتهم معرضون عن طريق التوبة والتعظة والانتباه. وقال بعضهم : قرب أوان اللقاء وهم فى غفلة عن استصلاح انفسهم لتلك الحضرة. ثم وصف سبحانه القلوب الغافلة بقوله : { لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ } ساهية عن الذكر وحقائقه ولذته شاغلة بحظوظ نفسها محجوبة عن لقاء خالقها. وقال بعضهم : غافلة عن مسالك اليقين وطريق المتقين.
وتقدير الآية: ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث، في حال من الأحوال، إلا حال استماعهم إياه كانوا لاعبين مستهزئين به، لاهين عنه، حال كون قلوبهم لاهيةً عنه لتناهي غفلتهم وفرط إعراضهم عن النظر والتفكر في عواقب الأمور.
قال ابن عجيبة : الإشارة : حمل الآية على العموم هو الظاهر عند الصوفية. وقد ورد عن رجل من الصحابة أنه كان يبني، فلقي بعض الصحابة فقال: ماذا نزل اليوم من القرآن؟ فقال له: { ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ } ، فنفض التراب، وقال: والله لا بنيتُ. هـ. أي: اقترب للناس حسابهم على النقير والقطمير، وهم في غفلة عن التأهب والاستعداد.، معرضون عن اتخاذ الزاد، ما يأتيهم من ذكر من ربهم، يعظهم ويُوقظهم، إلا استمعوه بآذانهم، وهم يلعبون ساهون عنه بقلوبهم لحشوها بالوساوس الشيطانية والعلائق النفسانية. لاهية قلوبهم عن التفكر والاعتبار والتدبر والاستبصار.
قال القشيري : ويقال: الغفلة على قسمين غافلٍ عن حسابه لاستغراقه في دنياه، وغافلٍ عن حسابه لاستهلاكه في مولاه، فالغفلة الأولى سِمَةُ الهجر، والثانية صِفَةُ الوصل، فالأولون لا يستفيقون من غفلتهم إلا في عسكر الموتى، وهؤلاء لا يرجون عن غيبتهم أبَدَ الأبد لفنائهم في وجود الحق. هـ. قلت: القسمة ثلاثية: قوم غفلوا عن حسابهم لاشتغالهم بحظوظهم وهواهم، وهم: الغافلون الجاهلون، وقوم ذكروا حسابهم، وجعلوه نصب أعينهم، وتأهبوا له، وهم: الصالحون والعباد والزهاد، وقوم غفلوا عنه، وغابوا عنه لاستغراقهم في شهود مولاهم، وهم: العارفون المقربون.