قوله تعالى: { وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً } ، اعلم أنَّ تخالف الآثار وتنقلات الأطوار على العبد من أفضل المنن عليه، إن صَحِبَتْه اليقظة، فيرجع إلى الله تعالى في كل حال تنزل به، إن أصابته ضراء رجع إلى الله بالصبر والرضا، وإن أصابته سراء رجع إليه بالحمد والشكر، فيكون دائمًا في السير والترقي، وهذا معنى قوله تعالى: { وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } أي: بهما. فالرجوع إلى الله في السراء والضراء من أركان الطريق، والرجوع إلى الله في الضراء بالصبر والرضا، وفي السراء بالحمد والشكر، ورؤية ذلك من الله بلا واسطة. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: " من ابتلي فَصَبَرَ، وأُعطِي فَشَكَرَ، وظُلِم فغفر أو ظلَم فاسْتَغْفَرْ " ، ثم سكت - عليه الصلاة والسلام - فقالوا: ما له يا رسول الله؟ قال: { أولئك لَهُمُ الأمْنُ وهم مُهْتَدُونَ }.
وقال صلى الله عليه وسلم: " عجبًا لأمرِ الْمُؤْمِن، إِنَّ أمرهُ كُلَّهُ خيرٌ، ولَيْسَ ذلِكَ لأحَد إلاَّ للمُؤْمنِ، إن أصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَر، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وإنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فكَانَ خَيرًا لَهُ".
والرجوع إلى الله في الضراء أصعب، والسير به أقوى لِمَا فيه من التصفية والتطهير من أوصاف البشرية، ولذلك قدَّمه الحق تعالى. وفي الحديث: " إذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْدًا ابْتَلاَهُ، فإن صبر اجتباه، وإن رضي اصطفاه " وفي الخبر عن الله تعالى: " الفقر سجني، والمرض قيدي، أحبس بذلك من أحببتُ من عبادي " وبه يحصل على عمل القلوب الذي هو الصبر والرضا والزهد والتوكل، وغير ذلك من المقامات، وذرة من أعمال القلوب أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح، ومن أعمال القلوب يُفضي إلى أعمال الأرواح والأسرار، كفكرة الشهود والاستبصار. وفكرة ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة، بل من أَلْفِ سنة، كما قال الشاعر:
كُلُّ وَقتٍ مِنْ حَبيبيِ قَدْرُهُ كَأَلْفِ حَجَّهْ
لأن المقصود من الطاعات وأنواع العبادات: هو الوصول إلى مشاهدة الحق ومعرفته، فالفكرة والنظرة لا جَزاء لها إلا زيادة كشف الذات وأنوار الصفات، منحنا الله من ذلك، الحظ الأوفر. آمين.