قال رضي الله عنه :
(الدَّعْوَى مِنْ رُعُونَةِ النَّفْسِ وَالمُدَّعِي مُنَازِعٌ لِلرُبُوبِيَّةِ)
الدَّعوى من حيث هي رعونة النفس ومن بقيتها. فالإنسان في ذلك منازع للربوبية ومضاد لها من دعواه الوجود لنفسه وذلك من أعظم الذنوب عند القوم وهو عين المنازعة المخبر بها في قول المصنف.
قيلَ أنَّ رابعة العدوية رضي الله عنها تلاقت مع بعض الصالحين فسألته عن حاله فقال لها : أنه سلك مسلك الطائعين وأنه لم يذنب منذ خلقه الله فقالت له : ويحك يا ولدي وجودك ذنب لا يُقاس به ذنب. وقد قيل في هذا المعنى :
إذا قال ما أذنبت قالت مجيبة وجودك ذنب لا يُقاس به ذنب
وهذا الذنب لا يطلع عليه إلا العارفون بالله وقد وجدوا عقوبته أعظم العقوبات، فمن عقوبة صاحبه أنه مطرود من الحضرة الإلهية فما دام مرتكباً لهذا الذنب فهي محرَّمة عليه إلاّ إذا خرجَ من وجوده وتبرَّأ منه وعزم أن لا يعود إليه، ومن لم تَسْخَ نفسه بالخروج عنه طُمسَ عليه، وبقيَ مُنازعاً للربوبية إلى الأبد، لأنه حاز ملك الغير ظلماً وجوراً. {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا}[الإنسان: الآية1].
زُل يا أخي عن وجودك، واخرج عن شهودك، واترك الكل لله وكن معه كأن لم تكن. قال أستاذنا سيدي محمد البوزيدي رضي الله عنه :
زُلْ منكَ عنكَ لتبقى ببقاه إذا تحيدْ نفسك ما تجد إلَّا الله
قيل أنَّ موسى عليه الصلاة والسلام سأل الحق في مناجاته بقوله : كيف الوصول إليك ؟ فقيل له : دَعْ نفسَكَ وتعالَ.فلو ألقيت الانقياد يا أخي إليه وسلمت وجودك لوجوده وكنت معه بلا أنت لنفخ فيك من روحه وخلفك في خلقه، وصار أمرك بأمره ونهيك بنهيه، بل كلك منه وإليه ليس لك نسبة معه في الوجود، متى وجدت ومن أي عالم أتيت حتى نازعته في الوجود؟ لا علم لك ولا خبر أتاك إنما وجدت نفسك كما وجدت أعمالك في هذا العالم، وإذا باللسان ناطق والعين باصرة واليد باطشة والرجل ماشية، وهكذا بقية الصفات والجوارح، حتى الآن لم تدر من المحرك لك فى ذلك، إنما أنت إذا هممت بحركة تجدها مقرونة باهتمامك، فهل لك خبر بذلك، أم لك قوة عليه؟ ومن هو المحرِّك والمتحرِّك ؟ فلو أنصفتَ من نفسك ورجعتَ عن غيِّك لقُلتَ {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى . وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} [النجم : 43.44]، ما أغفلك عن آيات الله بأجمعها، فلو انتبهت لِما أنت عليه لانزعجت وطشت وحقك أن تنزعج، وفي انزعاجك من القربات ما لا يوجد في عمل الثقلين لقول المصنف فيما سيأتي، فانزعاج القلب لروعة الانتباه أرجح من أعمال الثقلين، انزعاج القلوب من سجن الغفلات وتشوفها إلى فضاء الانتباه أرجح عند الله من عمل الثقلين،لأن قدر الهمة على قدر تعلقها، وقد تعلقت همة صاحب هذا القلب بالله وبالوصول إليه، فكان انزعاج القلب مما هو عليه من شهود الأكوان وضيق المكان يغنيه في العمل لصلاحيته واستحقاقه التقدُّم لحضرة الله بسبب تشوفه لذلك.
"فَمَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ الله أَحَبَّ اللهُ لِقاءَهُ" "ومَنْ تقرَّبَ مِنْهُ شِبراً تقرَّبَ إليهِ ذِراعاً، ومَنْ أتاهُ يَمشِي أتاهُ هَرْولَة"، فكان ذلك الانزعاج سبباً في قُربه لأنه من عملِ القُلوب فكان أرجح من عمل الثقلين. وقيلَ في هذا المعنى :
يا مُهْجَتِي ذُوبِي إليهِ صبابَةً ويا خاطِري عرج إليه لا تركنا
الدنيا سجن المؤمن، ومن لم ينزعج من السجن فهو إمَّا ميِّتُ القلب وإمَّا لجهلهِ بما وراء ذلك، ولو شهد المنازل لا يرضى بالمزابل.