الحقيقة المحمدية هي النور الأصلي الذي خلقه الله من نور ذاته، فهي التي لها الاستمداد من الحق دون واسطة، وإمداد الخلق بما قدره الله لهم من الكمال، فلما كانت الحقيقة المحمدية هي الحقيقة الكلية الأصلية التي رحم الله بها سائر معلوماته بإمدادها بها مصداقاً لقوله تعالى :(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) كان الإنباء عن الله الذي هو محتد مقام النبوة، والرسالة من الحق إلى الخلق، وولاية الله بالتحقق بكمالاته هي كلها من اعتبارات الحقيقة المحمدية. قال الشيخ عبد الكبير الكتاني موضحاً ذلك: "كل نبي تقدم زمان ظهوره على زمان ظهور النبي صلى الله عليه وسلم فهو نائب عنه في بعثته بتلك الشريعة... فنبوته ذاتية دائمة، ونبوة المظاهر عرضية منصرفة إلا نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فإنها غير منصرفة، إذ حقيقته حقيقة الروح الأعظم، وصورته التي أظهر فيها الحقيقة بجميع أسمائها وصفاتها، وسائر الأنبياء مظاهر بعض الأسماء والصفات تجلت في كل مظهر بصفة من صفاتها واسم من أسمائها، إلى أن تجلت في المظهر المحمدي بذاتها وجميع صفاتها، وختم به النبوة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم سابقاً على جميع الأنبياء من حيث الحقيقة متأخراً عنهم من حيث الصورة.
وقال الشيخ عبد الكريم الجيلي في كتابه (الكمالات الإلهية) مبيناً تخصيص الحقيقة المحمدية بالكمال الإلهي المطلق من بين سائر مراتب الوجود : "اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكمل الوجود وأفضل العالم وأشرف الخلق بالإجماع لكونه مخلوقاً من نور الذات الإلهية وما سواه فإنما هو مخلوقٌ من أنوار الأسماء والصفات ، فلأجل ذلك كان صلى الله تعالى عليه وسلم أولُ مخلوقٍ خلقه الله تعالى . فكما أن الذات مقدمةٌ على الصفات ، فمظهرها أيضاً مقدم على مظهر الصفات... فرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : هو الذاتي الوجود ، وما سواه فصفاتي الوجود : وذلك أن الله تعالى لما أراد أن يتجلى في العالم اقتضى كمال الذات أن يتجلى بكماله الذاتي بأكمل موجوداته في العالم ، فخلق محمداً صلى الله تعالى عليه وسلم من نور ذاته لتجلي ذاته...فهو في العالم في منـزلة القلب الذي وسع الحق... ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاتياً متسعاً للتجلي الذاتي كان متصفاً متحققاً بسائر الأسماء والصفات ومستوعباً لسائر الكمالات الوجودية الحقية والخلقية ولم يجتمعا بكمالهما في موجود غيره".
وقال مصطفى البكري مبينا هذا المعنى : :فهو صلى الله عليه وسلم كالقلب في وسعه سائر الأشياء لأنه وسع تجلي الحق ولم تسعه السموات والأرض، فهو صاحب الوسع الذاتي الإلهي وسواه ليس له إلا الوسع الصفاتي، فجمع الكمالات الحقية والخلقية، وقد استدار زمانه كهيئته يوم خلقه الله، فإن قوسي دائرة الوجود أحدها ينسب للخلق والثاني للحق، قال الله تعالى :{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ} و (أو) هنا معناها التفصيل...أي تارة كذا وتارة كذا، فهو صلى الله عليه وسلم تارة في مشهد القاب وتارة في مشهد أو أدنى، وتنزله للمشهد القابي تدلي، فإن مقام أو أدنى لا يدانيه أحد على الكمال غيره صلى الله عليه وسلم...".
اعلم أن نبينا صلى الله عليه وسلم لما كان مستوعبا سائر الكمالات الظاهرة والباطنة... كان هيكله الظاهر لنا أصل كل كمال حسي ظاهر، ومعناه الباطن أصل كل كمال غيبي باطن، وكان الكمال الظاهر عن فيض صورته الظاهرة والباطن عن فيض معانيه الباطنة.
ولما كانت المحبّة الأصلية الأولية ، هي عين القابلية وعين حقيقة الحقائق الأحمدية والبرزخية الأولى بين الأحدية والواحدية ، لا جرم كان قبلة توجهها وتعلقها عين المزاج الأحمدي والقلب الأعدل المحمدي ، صلى الله عليه ، الذين هما محلى كمال استجلاء التجلي الذاتي الأحدي الذي كان اسم حبيب الله من أخص أسمائه صلى الله عليه وسلم.
فكان صلى الله عليه وسلم عين الكمال الإنساني، ولذلك اختتمت النبوة والرسالة به عليه الصلاة والسلام، ونسخت شريعته سائر الشرائع، وكانت طريقته أقصر وأتم الطرق إلى الله، وحقيقته أكمل ما يمكن الوصول إليه من الحقائق الإلهية، فبعث لكافة البشر في كافة الأزمنة، وكان الكمال الإنساني الظاهر الناسوتي باتباع شريعته، والكمال المعنوي الباطن اللاهوتي بالتخلق بأخلاقه في طريقته، وكان كمال الولاية بالجمع بين سائر هذه الكمالات.
قال الشيخ أبو الفيض الكتاني :( الرسول صلى الله عليه وسلم هو المظهر الأكمل الدال على الله بالله، والدال على نفسه بنفسه، والدال على نفسه بالله، والدال على الله بنفسه مع قوله :"من رآني فقد رآى الحق" ).