الإشارة : ينبغي لك أيها العبد أن تكون إبراهيميا حنيفيا ، فتنبذ جميع الأرباب ، وتعادي كل من يشغلك عن محبة الحبيب ، من العشائر والأصحاب ، وتقول لمن عكف على متابعة هواه ، ولزم الحرص على جمع دنياه ، هو ومن تقدمه : أفرأيتم ما كنتم تعبدون ، أنتم وآباؤكم الأقدمون ، فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ، الذي خلقني لعبوديته ، فهو يهدين إلى معرفته ، والذي هو يطعمني طعم الإيمان واليقين والإحسان ، ويسقيني من شراب خمرة العيان ، وإذا مرضت بالذنوب فهو يشفين بالتوبة ، أو : مرضت بشيء من العيوب فهو يشفين بالتطهير منها .
أو : إذا مرضت برؤية السوى ، فهو يشفين بالغيبة عنه ، والذي أطمع أن يطهرني من البقايا ، ويجعلني من المقربين يوم الدين . وقال ذو النون رضي الله عنه : يطعمني طعام المعرفة ، ويسقيني شرا ب المحبة ، ثم قال :
شراب المحبة خير الشراب
وكل شراب سواه سراب
وقال الشيخ أبو يزيد البسطامي رضي الله عنه : " إن لله شرابا ، يقال له : شراب المحبة ، ادخره لأفاضل عباده ، فإذا شربوا سكروا ، وإذا سكروا طاشوا ، وإذا طاشوا طاروا وصلوا ، وإذا وصلوا اتصلوا ، فهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر ".
قلت : شراب المحبة هو خمرة الفناء والغيبة في الله ، بديل قول ابن الفارض رضي الله عنه :
فلم تهوني ما لم تكن في فانيا .
ولم تفن ما لم تجتل فيك صورتي
وقال الجنيد رضي الله عنه : ( يحشر الناس يوم القيامة عراة ، إلا من لبس ثياب التقوى ، وجياعا إلا من أكل طعام المعرفة ، وعطاشا إلا من شرب شراب المحبة ). وقد يستغني صاحب طعام المعرفة وشراب المحبة عن الطعام والشراب الحسيين ، كما قال صلى الله عليه وسلم ، حين كان يواصل : « إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقين » .
قال أبو الوراق في قوله تعالى : { الذي هو يطعمني ويسقين } أي : يطعمني بلا طعام ، ويسقيني بلا شراب . قال : ويدل عليه حديث السقاء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ حيث سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ ثلاثة أيام : { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } ، فرمى بقربته ، فأتاه آت في منامه بقدح من شراب الجنة ، فسقاه ، قال أنس : ( فعاش بعد ذلك نيفا وعشرين سنة ، ولم يأكل ولم يشرب على شهوة ).
وكان عبد الرحمن بن أبي نعيم لا يأكل في الشهر إلا مرة ، فأدخله الحجاج بيتا ، وأغلق عليه بابه ، ثم فتحه بعد خمسة عشر يوما ، ولم يشك أنهم مات ، فوجده قائما يصلي ، فقال : يا فاسق ، تصلي بغير وضوء؟ فقال : إنما يحتاج الوضوء من يأكل ويشرب ، وأنا على الطهارة التي أدخلتني عليها . ه . ومكث سفيان الثوري بمكة دهرا ، وكان يسف من السبت إلى السبت كفا من الرمل . ه . وهذا من باب الكرامة ، فلا يجب طردها ، وقد تكون بالرياضة ، وطريق المعرفة لا تتوقف على هذا . والله تعالى أعلم .
تفسير ابن عجيبة