اعلم أيها الفقير المعتني بما يلزمه في خاصة نفسه أن أكثر شغل المحب لله والغالب على قلبه كثرة الذكر لمحبوبه على طريق الدوام والاستقامة لا ينقطع ذكره ولا يملّ ولا يفتر، وبذكره يستريح من ثقل ما يجده، وقد وقع الإجماع من العلماء أنّ من أحبّ شيئاً أكثر من ذكره. فذكر الله تعالى هو الغالب على أهل المحبة لا يريدون به بدلاً ولا يبغون عنه حوَلاً، ولو حصل الانقطاع عن ذكر محبوبهم لفسد عيشهم. فحياة المحب إنما هي ذكر محبوبه ولا يدوم الإنسان على ذكره إلاّ من أحبّه الله سبحانه إذ علامة من أحبّ الله دوام ذكره.
وقد ورد في الخبر أنّ موسى عليه السلام قال : (يا ربّ كيف لي أن أعلم من أحببت ممن أبغضت ؟ قال : يا موسى إنّي إذا أحببت عبداً جعلت في علامتين. قال : يا ربّ وما هما ؟ قال : ألهمته ذكري لكي أذكره في ملكوت السماوات، وأعصمه من محارمي وسخطي كي لا يحلّ عليه عذابي ونقمتي. يا موسى إنّي إذا أبغضت عبداً جعلت فيه علامتين. قال : يا ربّ وما هما ؟ قال : أنسيته ذكري وأخلّي بينه وبين نفسه لكي يقع في محارمي وسخطي فيحلّ عليه عذابيّ).
فالمحب الحقيقي لا يفتر عن ذكر الله قولاً وفعلاً، أما قولاً فهو ذكر اللسان، وأما فعلاً فوقوفه على الحدود أمراً ونهياً، وهذه علامة المحبة وهذا هو الذكر الحقيقي الذي يتواطئا فيه اللسان والقلب وهذا هو الذكر الذي تحصل به معرفة المذكور وهذا هو الذكر الذي يوجب رفع الستور ودوام الحضور، ولا تنال هذه الحالة إلاّ بالإعراض عن العوالم العلوية والسفلية والجلوس على بساط التجريد بنعت تفريد القلب من كل شيء سوى المذكور والوحشة في الظاهر من كل شيء بنعت الأنس بالمذكور، وهو لا يكون إلاّ لمن تعسّل باطنه بشوارق الأنوار فترك الأضداد والأنداد، وأقبل على مولاه إقبالاً يوجب له تمكين الذكر في قلبه تمكيناً من قِبَل الحكمة والقدرة يغيب به الذاكر في المذكور حكمة وقدرة لا حلولاً واتحاداً. فاستعد يا فقير للخيرات عند انقطاعك إليه وإعراضك عما سواه. فلا تعلم نفس ما أخفي لأهل ذكر الله بالنعت المذكور جزاءً بما كانوا يعملون من الذكر الجمعي الذي يوجب الغيبة عما سوى المذكور. فالذكر إذا كان جميعاً أورث الجمع وإذا كان فرقياً أورث الفرق، فافهم.