قال القشيري : واعلم أنه تعالى حكم في الأزل لعباده بما شاء ، فمنهم شقي وسعيد ، وقريب وبعيد ، فمن حكم له بالسعادة لا يشقى أبدا ، ومن حكم له بالشقاوة لا يسعد أبدا ، ولذا قالوا : من أقصته السوابق لم تدنه الوسائل . وقالوا : من قَعد به جِدُّه لم ينهض به جَدُّه .
واعلم أن الناس على أربعة أقسام :
الأول : أصحاب سوابق ، فتكون فكرتهم أبدا فيما سبق لهم من الرب في الأزل يعلمون أن الحكم الأزلي لا يتغير باكتساب العبد .
والثاني : أصحاب العواقب يتفكرون فيما يختم به أمرهم ، فإن الأمور بخواتيمها ، والعاقبة مستورة ، ولهذا قيل : لا يغرنك صفاء الأوقات ، فإن تحتها غوامض الآفات ، فكم من مريد لاحت عليه أنوار الإرادة ، وظهرت عليه آثار السعادة ، وانتشر صيته في الآفاق ، وظنوا أنه من جملة أوليائه بالإطلاق ، بدل بالوحشة صفاؤه وبالغيبة ضياؤه وأنشدوا :
أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت
ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها
وعند صفو الليالي يحدث الكدر
والثالث : أصحاب الوقت وهم لا يشتغلون بالتفكر في السوابق واللواحق ، بل بمراعاة وقته ، وأداء ما كلفوا له من حكمه ، وقيل : العارف ابن وقته . والرابع : أصحاب الشهود ، وهم الذين غلب عليهم ذكر الحق ، فهم مأخوذون بشهود الحق عن مراعاة الأوقات لا يتفرغون إلى مراعاة وقت وزمان ، ولا يتطلعون لشهود حين : وأوان ، وقيل : أصله المنع ، وسمى العلوم حكما لأنها تمنع صاحبها عن شيم الجهال .