رُبَّما أفادَكَ في لَيْلِ القَبْضِ ما لَمْ تَسْتَفِدْهُ في إشْراقِ نَهارِ البَسْطِ {لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً}
القبض والبسط حالتان يتعاقبان على الإنسان كتعاقب الليل والنهار، فالليل محل السكون والقرار محل التحرك والانتشار، القبض لاحظّ فيه للنفس، والبسط تأخذ النفس حظها منه، وما لاحظ فيه للنفس أقرب للسلامة وأعظم للإفادة، فالقبض كالليل والليل محل المناجاة والمصافاة وملاقاة الأحباب ورفع الحجاب، فربما أفادك في ليل القبض من انخناس النفس وذهاب الحس وموالاة الأنس ما لا تستفيده في نهار البسط من تحصيل العلوم وتحقيق الفنون ومجالسة الأخيار ومخالطة الأبرار، فالقبض له فوائد والبسط له فوائد والعبد لا يدري أيهما أقرب له نفعاً، فتعين الوقوف مع ما يواجهه من جهة الحق فيتلقاه بالقبول والأدب. وقد تقدم آداب كل واحد منهما عند قوله :( بسطك كي لا يتركك مع القبض... الخ) فلا تطلب البسط إن واجهك بالقبض، ولا تطلب القبض إن واجهك بالبسط، فقد تستفيد من أحدهما مالا تستفيده من الآخر، فلا تدري أيهما أنفع ولا أيهما أضر، ولذلك استدل بالآية التي نزلت في ميراث الأب من الابن، فالبسط كالأب لأنه ناشىء من شهود ما منه إليك، وهو فعل الحق الذي صدر منه كل موجود وهو الأصل، والقبض كالابن لأنه ناشئ من شهود ما منك إليه وهو الفرع، إذ الفعل كله من القدرة وأما الحكمة فإنما هي تغطية، وإذا كان العبد جاهلاً بمنتفعتهما كجهله بالأنفع من الآباء والأبناء تعين متابعة الحق باتباع مراده وانتهاجه حاله من غير تحول ولا انتقال ولا تشوف إلى غير ما هو فيه من ذلك الحال، بذلك يتنور قلبه ويتطهر سره ولبه فتكشف عنه الحجب والأستار ويتهيأ لحمل الأنوار والأسرار.