آخر الأخبار

جاري التحميل ...

مقام الغيرة عند ابن عربي

مقام الغيرة عند ابن عربي

الغيرة الإلهية أثبتها الإيمان ولكن بأداة مخصوصة

اعلم أيدنا الله وإياك بروح منه أن الغيرة نعت إلهي‏.
ورد في الخبر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم قال في سعد :" إن سعدا لغيور وأنا أغير من سعد والله أغير مني ومن غيرته حرم الفواحش  ".‏
وفي هذا الحديث مسألة عظيمة بين الأشاعرة والمعتزلة وهو حديث صحيح فالغيرة أثبتها الايمان ولكن بأداة مخصوصة وهي اللام الأجلية أو من أو الباء وتستحيل بأداة على وهي التي وقعت من الشبلي إما غلطة وإما قبل أن يعرف الله معرفة العارفين فالغيرة في طريق الله هي الغيرة لله أو بالله أو من أجل الله والغيرة على الله محال‏.

من كمال العالم وجود النقص الإضافي فيه‏

فتحقيق كونها نعتا إلهيا وهو نعت يطلب الغير ولذا سميت غيرة فلو لا ملاحظة الغير ما سميت غيرة ولا وجدت فالإله القادر يطلب المألوه المقدور وهو الغير فلا بد من وجود ما يطلب إلا له وجوده فأوجد العالم على أكمل ما يكون الوجود فإنه لا بد أن يكون كذلك لاستحالة إضافة النقص إلى الكامل الاقتدار فلذلك قال أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ وهو الكمال فلو لم يوجد النقص في العالم لما كمل العالم فمن كمال العالم وجود النقص الإضافي فيه فلذلك قلنا إنه وجد على أكمل صورة بحيث إنه لم يبق في الإمكان أكمل منه لأنه على الصورة الإلهية. ورد في الخبر أن الله خلق آدم على صورته‏.
فكان في قوة الإنسان من أجل الصورة أن ينسى عبوديته ولذلك وصف الإنسان بالنسيان فقال في آدم فَنَسِيَ والنسيان نعت إلهي فما نسي إلا من كونه على الصورة فما زلنا مما كنا فيه قال تعالى نَسُوا الله فَنَسِيَهُمْ كما يليق‏.

العبد المكمل بالصورة ودعوى الربوبية

بجلاله فلما علم الحق أن هذا العبد بما كمله الله به من القوة الإلهية بالصورة الكمالية لا بد أن يدعي في نعوت ما هو حق لله لطلب الصورة الكمالية لذلك النعت وهو من بعض النعوت الإلهية فغار الحق من المشاركة في بعض نعوت الجلال وشغل الإنسان بما أباح له من باقي النعوت الإلهية فلما علم أيضا أنه لا يقف عند ذلك وأنه لا بد أن يعطي الصورة الكمالية حقها في الاتصاف بالنعوت الإلهية وإنها تتعدى ما حجر عليها مثل العظمة والكبرياء والجبروت‏.
فقال : " الكبرياء ردائي والعظمة إزاري من نازعني واحدا منهما قصمته‏ ".
وقال كَذلِكَ :" يَطْبَعُ الله عَلى‏ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ " فهذا هو عين الغيرة غار على هذه النعوت أن تكون لغير الله فحجرها وكذلك تحجرت على الحقيقة بقوله كَذلِكَ يَطْبَعُ الله عَلى‏ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ فلا يدخل مع هذا الطابع قلب كون من الأكوان تكبر على الله ولا جبروت لأجل هذا الطبع‏.

معنى الطابع الذي طبع الله على قلب المتكبر الجبار

فعلم كل من أظهر من المخلوقين دعوى الألوهية كفِرعَون وغيره وتكبر وتجبر كل ذلك في ظاهر الكون وهذا الذي ظهرت منه صفة الكبرياء مطبوع على قلبه إن يدخل فيه الكبرياء على الله فإنه يعلم من نفسه افتقاره وحاجته وقيام الآلام به من ألم جوع وعطش وهواء ومرض التي لا تخلو هذه النشأة الحيوانية عنه في هذه الدار وتعذر بعض الأغراض أن تنال مرادها وتألمه لذلك ومن هذه صفته من المحال أن يتكبر في نفسه على ربه فهذا معنى الطابع الذي طبع الله على قلب المتكبر الذي يظهر لكم به من الدعوى الجبار يجبركم على ما يريد فمنكم المطيع والمخالف ولو هلك بمخالفته ولهذا يرجى حكم السعادة في المال ولو بعد حين فإن القلوب ما يدخلها كبرياء على الله لكن يدخلها بعضهم على بعض قال تعالى :" لَخَلْقُ السَّماواتِ والْأَرْضِ أَكْبَرُ من خَلْقِ النَّاسِ " وإذا علمت السماء أنها أكبر من خلق الناس كانت موصوفة بالكبرياء على الناس وذلك الكبرياء لا يقدح فيها فهذا معنى الغيرة الإلهية فلا رافع لما حجره فلا يتكبر على الله فيما بينه وبين الله أحد من خلق الله هذا محال وقوعه والقدر الذي وقع عليه التحجير الظاهر عليه وقع الذم لمن انتهكه وأضافه إلى نفسه وكذبوا على الله فيه‏

الغيرة لله ومن أجل الله وبالله وعلى الله‏

وأما الغيرة لله ومن أجل الله وبالله فهو أن يرى الإنسان ما حده الحق أن يتعداه الخلق فيقوم به صفة الغيرة لله لا لنفسه ومن أجل الله لا من أجل نفسه إذ علم أن الخلق عبيد الله وأنه من حكم العبد أن لا يتعدى حد ما رسم له سيده وأما أن يغار على الله فإن الغيرة ستر يحجب المغار عليه حتى لا يكون إلا عنده خاصة وطريق الله مبني على أن ندعو الخلق إلى الله وأن نردهم إليه ونحببه إليهم ونعرفهم به وبمكانته وبهذا أمرنا والغيرة الكونية تأبى ذلك كله لجهلها بالمغار عليه الذي لا يستحق الغيرة عليه ولو لا الوقوع فيمن انتمى إلى الله وجهل بعض ما ينبغي لله وقصد بذلك الخير ولكن ما علم طريقه وإلا كنا نذكر جهل هذا القائل بالغيرة على الله ولكن يكفي تنبيهنا على أن هذا ليس بصحيح وإنما التبس على مثل هؤلاء الغيرة لله بالغيرة على الله وما علموا ما بينهما من الفرقان‏.

ما ذكره القشيري في باب الغيرة وليس هو من الغيرة

ذكر في باب الغيرة القشيري في رسالته عن بعضهم أنه قيل له : متى تستريح ؟ قال : إذا لم أر له ذاكرا . وليس هذا بغيرة فالقشيري أخطأ حيث جعل مثل هذا في باب الغيرة من كتابه وتخيل أن الشبلي في حال رؤية الذاكرين الله على الغفلة وبعدم الحرمة مثل من يذكره بلغو الايمان والايمان الفاجرة وذكر الله في طلب المعاش في الأسواق فغار أن يذكر بهذه الصفة لما لم يوف المذكور حقه من الحرمة عند الذكر والشبلي ما يبعد أن يكون هذا قصده بذلك القول في بدء أمره وفي وقت حجابه عن معرفة ربه وأما مع المعرفة فلا يكون هذا يعني قوله إذا لم أر له ذاكرا وإن معنى ذلك عندنا في حق كبراء العارفين أن الذكر لا يكون مع المشاهدة فلا بد للذاكر أن يكون محجوبا وإن كان الله جليس الذاكر ولكنه من وراء حجاب الذكر وكل من هو خلف حجاب من مطلوبه فإنه لا راحة عنده فإذا رفع الحجاب وقعت المشاهدة وزال الذكر بتجلى المذكور فلذلك قال إنما أستريح إذا لم أر له ذاكرا فطلب إن تكون مشاهدته تمنعه عن إدراك الذاكرين أو تمنى للذاكرين أن يكونوا في مقام الشهود الذي يمنعهم من الذكر إذ المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه على هذا يخرج قول هذا الرجل إن كان من العارفين وعلى ذوق آخر وهو أنه لا يستريح إلا إذا رأى أن الذكر هو الله لا الكون إذا كان الحق لسانه كما هو سمعه وبصره ويده فيستريح لأنه رأى أنه قد ذكره من يعلم كيف يذكره إذ كان هو الذاكر نفسه بلسان عبده فاستراح عند ذلك فلم ير له ذاكرا غيره‏.

غيرة الرسول وأكابر الأولياء

وأما غيرة الرسول وأكابر الأولياء فغيرتهم لله كما قلنا وهي غيرة أدب والغيرة كتمان ما ينبغي أن يكتم لعدم احترامه لو ظهر عند من لا يقدر قدره كما قال تعالى :" وما قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ " فمن الغيرة ستر مثل هذا ومن الغيرة الإلهية ستره لضنائنه من أهل الخصوص في كنف صونه فلا يعرفون وذلك رحمة بالخلق فإنه تعالى لو أبدى مكانتهم ورتبتهم العلية لمن علم منه أنه لا بد أن يجري الأذى على يديه في حق هذا المقرب المجتبى ثم جرى منه ذلك الأذى في حقه لكان عدم احترام للجناب الإلهي حيث لم يعظم ما عظمه الله فسترهم عن العلم بهم فما احترموهم وآذوهم لجهلهم بهم وذلك لما قدره الله ولهذا تسأل هذا الذي آذى ذلك العبد المقرب من نبي أو صديق فتقول له من غير تعيين ما عندك في أولياء الله فيجد عنده من الحرمة لهم والتبرك بذكرهم والخضوع تحت أقدامهم لو وجدهم فإذا قلت له هذا منهم وهو منهم لم يقم عنده تصديق بذلك ولو جئته بأمر معجز وكل آية ما قدر يعتقد أن ذلك آية ولا أعطته علما فما آذى إلا من جهل لا من علم‏.

من غيرة الحق حجابه الخلق عن العلم به وبالخاصة من عباده‏

ومما يؤيد ما ذكرناه أنه لو حسن الظن بشخص وتخيل أنه من أولياء الله وليس كذلك في نفس الأمر عظمه واحترمه هذا في فطرة كل مخلوق فما قصد أحد انتهاك حرمة الله في أوليائه وهذا من غيرة الحق فإن قلت فقد آذوا الله مع علمهم بأنه الله قلنا في الجواب عن ذلك ما علموا إن ذلك أذى وأنهم تأولوا فأخطئوا في نفس الأمر لحكم الشبهة التي قامت لهم وتخيلوا أنها دليل وهي في نفس الأمر ليست كذلك وهذه كلها من الحق في عباده أمور مقدرة لا بد من وقوعها فمن غيرته حجابهم عن العلم به وبالخاصة من عباده فجناب الله وأهل الله على الإطلاق محترمون ما لم تعين أو يتأول فاعلم ذلك‏.

الفتوحات المكية

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية