وعوده إلى الصحة وبيان الطريق إلى معرفة الإنسان عيوب نفسه.
اعلم أن كل عضو خلق لفعل خاص، فعلامة مرضه أن يتعذر منه ذلك الفعل، أو يصدر منه مع نوع من الاضطراب، فمرض اليد تعذر البطش، ومرض العين تعذر الإبصار، ومرض القلب أن يتعذر عليه فعله الخاص به الذي خلق لأجله، وهو العلم والحكمة والمعرفة، وحب الله تعالى وعبادته، وإيثار ذلك على كل شهوة. فلو أن الإنسان عرف كل شيء ولم يعرف الله سبحانه، كان كأنه لم يعرف شيئاً.
وعلامة المعرفة: الحب، فمن عرف الله أحبه، وعلامة المحبة أن لا يؤثر عليه شيئاً من المحبوبات، فمن آثر عليه شيئاً من المحبوبات فقلبه مريض، كما أن المعدة التي تؤثر أكل الطين على أكل الخبز- وقد سقطت عنها شهوة الخبز- مريضة.
ومرض القلب خفي قد لا يعرفه صاحبه، فلذلك يغفل عنه، وإن عرفه صعب عليه الصبر على مرارة دوائه، لأن دواءه مخالف الهوى، وإن وجد الصبر لم يجد طبيباً حاذقاً يعالجه، فإن الأطباء هم العلماء والمرض قد استولى عليهم والطبيب المريض قلما يلتفت إلى علاجه، فلهذا صار الداء عضالاً، واندرس هذا العلم، وأنكر طب القلوب ومرضها بالكلية وأقبل الناس على أعمال ظاهرها عبادات وباطنها عادات فهذه علامة أصل المرض.
وأما عافيته وعوده إلى الصحة بعد المعالجة، فهو أن ينظر إلى العلة، فإن كان يعالج داء البخل، فعلاجه بذل المال، ولكنه لا يسرف، ويصير إلى حد التبذير فيحصل داء آخر فيكون كمن يعالج البرودة بالحرارة الغالبة حتى تغلب الحرارة، فيكون داءً أيضاً، بل المطلوب الاعتدال... ولا تزال تراقب نفسك، وتستدل على خلقك بتيسير الأفعال وتعسيرها، حتى تنقطع علاقة قلبك عن المال فلا تميل إلى بذله ولا إمساكه، بل يصير عندك كالماء، فلا تطلب فيه إمساكه لحاجة محتاج، أو بذله لحاجة محتاج، فكل قلب صار كذلك، فقد جاء الله سليماً في هذا المقام.
ويجب أن يكون سليماً على سائر الأخلاق حتى لا تكون له علاقة بشيء من الدنيا، حتى ترتحل النفس عن الدنيا منقطعة العلائق منها، غير ملتفته إليها، ولا متشوقة إلى أسبابها، فحينئذ ترجع إلى ربها رجوع النفس المطمئنة ولما كان الوسط الحقيقي بين الطرفين في غاية الغموض، بل هو أدق من الشعر وأحد من السيف فلا جرم من استوى على هذا الصراط في الدنيا، جاز على مثل هذا الصراط في الآخرة، ولأجل عسر الاستقامة أمر العبد أن يقول في كل يوم مرات {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6]، ومن لم يقدر على الاستقامة، فليجتهد على القرب من الاستقامة فإن النجاة بالعمل الصالح. ولا تصدر الأعمال الصالحة إلا عن الأخلاق الحسنة، فليتفقد كل عبد صفاته وأخلاقه، وليشتغل بعلاج واحد بعد واحد، وليصبر ذو العزم على مضض هذا الأمر، فإنه سيحلو كما يحلو الفطام للطفل بعد كراهته له، فلو رد إلى الثدي لكرهه، ومن عرف قصر العمر بالنسبة إلى مدة حياة الآخرة حمل مشقة سفر أيام لتنعم الأبد، فعند الصباح يحمد القوم السّرَى.
واعلم أن الله تعالى إذا أراد بعبد خيراً بصره بعيوب نفسه، فمن كانت له بصيرة، لم تخف عليه عيوبه، وإذا عرف العيوب أمكنه العلاج، ولكن أكثر الناس جاهلون بعيوبهم، يرى أحدهم القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه. فمن أراد الوقوف على عيب نفسه فله في ذلك أربع طرق:
الطريقة الأولى: أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب النفس، يعرف عيوب نفسه وطرق علاجها، وهذا قد عز في هذا الزمان وجوده، فمن وقع به، فقد وقع بالطبيب الحاذق فلا ينبغي أن يفارقه.
الطريقة الثانية: أن يطلب صديقاً صدوقاً بصيراً متديناً، وينصبه رقيباً على نفسه لينبهه على المكروه من أخلاقه وأفعاله. وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: رحم الله امرءاً أهدى إلينا عيوبنا. وسأل سلمان رضي الله عنه لما قدم عليه من عيوبه، فقال: سمعت أنك جمعت بين إدامين على مائدة، وان لك حلتين: حلة بالليل، وحلة بالنهار، فقال: هل بلغك غير هذا؟ قال: لا، قال: أما هذا فقد كفيتهما. وكان عمر رضي الله عنه يسأل حذيفة: هل أنا من المنافقين؟ وهذا لأن كل من علت مرتبته في اليقظة زاد اتهامه لنفسه، إلا أنه عز في هذا الزمان وجود صديق على هذه الصفة، لأنه قل في الأصدقاء من يترك المداهنة، فيخبر بالعيب أو يترك الحسد، فلا يزيد على قدر الواجب. وقد كان السلف يحبون من ينبههم على عيوبهم، ونحن الآن في الغالب أبغض الناس إلينا من يعرفنا عيوبنا. وهذا دليل على ضعف الإيمان، فإن الأخلاق السيئة كالعقارب، لو أن منبهاً نبهنا على أن تحت ثوب أحدنا عقرباً لتقلدنا له منة، واشتغلنا بقتلها، والأخلاق الرديئة أعظم ضرراً من العقرب على ما لا يخفى.
الطريقة الثالثة: أن يستفيد معرفة نفسه من ألسنة أعدائه، فإن عين السخط تبدى المساوئ، وانتفاع الإنسان بعدو مشاجر يذكر عيوبه، أكثر من انتفاعه بصديق مداهن يخفى عنه عيوبه.
الطريقة الرابعة: أن يخالط الناس، فكل ما يراه مذموماً فيما بينهم، يجتنبه.
إحياء علوم الدين