اعلم يا فقير أنّ شؤون الحق سبحانه كما أنها لا بداية لها كذلك لا نهاية لها لأنها لا زالت في الترقّي، وشؤونه كمالاته، وكمالاته كلماته، وكلمة الله لا نفاذ لها. ولكن قلّ في وقتنا من يذوق معين أسرار الكمالات الربانيّة فيوفّيها حقّها ويقف على مقصود الحدود بنعت وجود الأدب. ومن كماله سبحانه أن جعل النور من صفته الذاتية لا تحول ولا تزول، وجعل الظلمة من صفتنا الذاتية التي لا يغرب فلكها ولا يفول، وهذا من أشرف كمالاته سبحانه.
ثم إنه أظهر سرّ الكمال الإلهي في هذه المظاهر العلوية والسفلية وخصوصاً منها هذا المظهر الإنساني الذي هو أشرف الموجودات وأكملها، فظهر فيه بالصفتين، أعني النورانية والظلمانية، اللتان هما العلم والجهل، فكان قابلا لكل صورة في الوجود. فصارت أطواره دائرة ما بين فقد ووجد، وعلم وجهل، إلى غير ذلك من المقتضيات الربانية.
فكان في كل وقت وزمان وأوان مظاهر تترقّى فيهما الكمالات الإلهية، ولا سبيل للعقل أن يحكم بفقدها وإلاّ حكم بفقد الربوبية وهي أزلية أبدية، غير أنّ الحق سبحانه من كمال إطلاق علمه الذي خرج به عن التعقّلات الوهمية ولم يحجر بقاعدة خيالية حكم بحكم سلطانه القاهر وعزّه الباهر بتباين الصفتين في المظاهر وفي الأوقات.
- فمظهر غلبت فيه قابلية الظلمة فقيل فيه عامّي.
- ومظهر ظهرت فيه وغلبت عليه قابلية العلم الذي هو النور، فقيل فيه خاص وعالم.
- ووقت غلبت فيه المتابعة للقوانين الشرعية والموازين الإلهية، فقيل فيه خير القرون وأفضل الأزمنة لبزوغ شمس الهداية.
- ووقت غلبت فيه المتابعة للهوى والعدول عن الجادّة النورانيّة، فقيل فيه زمان الغواية وقرن الضلالة.
هكذا أجرى الله سنته في خلقه وكان الحكم في الوجود للغالب، على أنك إذا تأملت ما قدّمناه من الكمالات الإلهية وجدت الربوبية على حالها، كما تترقّى فى الخير تترقّى فى الشرّ، إذ الحضرتان عامرتان لا ينقص واحد في العدد، غير أنّ الحاكم ينظر إلى سرّ الظهور وسرّ البطون، فيحكم به مع علمه أنه لو نقص واحد من الدائرة النورانية لانهدّت دعائم الدائرة الظلمانية.
فأهل الوراثة النبويّة لا زالوا ولا يزالون إلى أبد الآباد، إذ هم روح العوالم الكيانية الدنيوية والأخروية، لكن الحق سبحانه قدّمنا أن من كمالاته سبحانه أن يظهر في وقت ما يبطن في غيره، ويبطن في مظهر ما أظهر في غيره، لحكمة ربانيّة ومعارف إلهيّة.
فكما أنه سبحانه حكم عليهم بالظهور في الماضي حكم عليهم بالخفاء في الحال، على أنه لا ظهور ولا خفاء إذا ما عرفهم فيما تقدم إلا من كان منهم وإليهم. وأما الجاهل فلا زال في حجاب عزّة نفسه يقول له ( مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا ) إلى غير ذلك.
كذلك فى وقتنا أهل الدائرة النورانية فى غاية الجلاء والظهور، ولكن حجاب الغيرة والمواقتة صرف قلوبنا عن شهود الحقائق النورانية فنقرّ ما هم عليه من وجود الكثافة، وهذا معنى غرابة الدين، إذ غرابته إنما هي بغرابة أهله، وغرابتهم بطون الحق لهم في صدف البشرية عناية وحكمة.
وأما قول بعضهم : إن هذا الدين قد غرب لغرابة العلماء، ويعني علماء الدنيا، فهو أمر صحيح ولكن لا نرى غرابتهم في وقتنا إلاّ كغرابة الماء في البحر، فكما أن مياه البحر في غاية الكثرة كذلك العلم في غاية الكثرة، ولكن المفقود وجود العمل به الذي يصير به الدين قويّاً.
وأقول : والله ما صار الدين غريباً إلا لغرابة أهل العمل بالعلم بنعت خفائهم علينا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، حتى صارت السنة المحمديّة بدعة فرعونيّة، وبدعة هامان وقارون سنة محمديةّ، وما ذلك إلا لمتابعة الهوى وقلة مراقبة الحق فيما فيه الدواء، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقديماً تمثّلت مولاتنا عائشة الصديقة بقول لبيد :
ذَهَبَ الذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ ... إلخ البيت.
فافهم هذه النبذة في الكلام، ففيها الشفاء من كل الأسقام، والكمال كله للواحد العلام. والسلام.
بغية السالك وإرشاد الهالك