حقارة الدنيا
الدنيا أحقر من أن يُعال همها.صغرت الهمم فعالت صغيرا،فلو كنت كبيرا لعلت الكبير. من عال الهم الصغير وترك الهم الكبير استسفلنا عقله .
قُم أنت بما يلزمك من وظائف العبودية ، وهو يقوم بما التزمه . أيرزقُ الجُعل والوزغ وبنات وردان - حشرات - وينسى أن يرزقك ؟ قال الله تعالى : {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ}.
كلُّ من كان مراعيا لحق الله تعالى، لا يُحدثُ الله حدثا في المملكة إلا أعلمه . نظر بعضهم إلى بعض جماعة فقال لهم : هل فيكم من إذا أحدث الله سبحانه وتعالى في المملكة حدثا أعلمه ؟ قالوا : لا . فقال لهم : ابكوا على أنفسكم .
كان المتقدمون من السلف رضي الله عنهم يسألون الشخص عن حاله ليستثيروا منه الشكر ، والناس اليوم ينبغي ألا يسألوا فإنك إن سألت تستثير منهم الشكوى .
عن بعض النباشين أنه تاب إلى الله تعالى ، فقال يوما لشيخه : يا سيدي نبشت ألف قبر ، فوجدت وجوههم مُحولة عن القبلة، فقال له الشيخ : يا ولدي ، ذلك من شكِّهم في الرزق . يا عبدالله ، إذا طلبت من الله فاطلب منه أن يُصلحك من كل الوجوه ، وأن يُصلحك بالرضا عنه في تدبيره، ثم إنك عبد شرود طلب منك أن تعتبر إليه ففرت منه ، فإن الفرار بالأفعال والأحوال والهمم . فإذا كنت في صلاتك تسهو وفي صومك تلغو وفي لُطف الله تشكو ، أفما أنت شارد ؟
محاسبة النفس
عن الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه أنه قال: بقيت مرة في البادية ثلاثة أيام لم يُفتح لي بشيء ، فجاز علي بعض النصارى فرأوني متكئا فقالوا : هذا قسيس من المسلمين ،فوضعوا عند رأسي شيئا من الطعام وانصرفوا ، فقلت : يا للعجب ! كيف رزقت على أيدي الأعداء ، ولم أرزق على أيدي الأحباء ؟! فقيل : ليس الرجل من يُرزق على أيدي الأحباء ، إنما الرجل من يُرزق من أيدي الأعداء .
يا هذا أجعل نفسك كدابتك ، كلما عدلت عن الطريق ضربتها فرجعت إلى الطريق ، ولو فعلت مع نفسك مثل ما تفعل بجُبتك كلما اتسخت غسلتها ، وكلما تقطع منها شيء رقعته وجددته كانت لك السعادة . فرُب رجل ابيضت لحيته وما جلس مع الله جلسة يُحاسب فيها نفسه.
كان الشيخ مكين الدين الأسمر رحمه الله يقول : كنت أحاسب نفسي عند المساء فأقول : تكلمت اليوم بكذا وكذا ، فأجد ثلاث كلمات أو أربع. وكان عنده يوما شيخ عمره نحو تسعين سنة ، فقال له: يا سيدي أشكو إليك كثرة الذنوب . فقال الشيخ : هذا شيء لا نعرفه وما أعرف أني عملت ذنبا قط .
كما أن للدنيا أبناء من استند إليهم كفوه ، فكذلك للآخرة أبناء من استند إليهم أغنوه، ولا تقل : طلبنا فلم نجد ، فلو طلبت بصدق لوجدت، وسبب عدم وجدانك عدم استعدادك ، فإن العروس لا تُجلى على فاجر ، فلو طلبت رؤية العروس لتركت الفجور ، ولو تركت الفجور لرأيت الأولياء، والأولياء كثيرون لا ينقص عددهم ولا مددهم، ولو نقص واحد منهم لنقص نور النبوة، فإذا أحببت حبيبا لن تصل إليه حتى تكون أهلا للوصول إليه، وذلك حتى تطهر مما أنت فيه من الرذائل.
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رحمه الله : أولياء الله عرائس، والعرائس لا يراها المجرمون.
حلاوة الطاعة
إذا ثقلت عليك الطاعة والعبادة ولم تجد لها حلاوة في قلبك ، وتَخِفُّ عليك المعصية ، وتجد لها حلاوة؛ فاعلم أنك لم تصدق في توتبتك؛ فإنه لو صح الأصل لصح الفرع.
ليتك أطعت مولاك كما يُطيعك عبدك ، فإنك تُحبه ناهضا في خدمتك دائما ، وأنت تُحب الطاعة وتطلب أن تفرغ منها مسرعًا كأنك تنقر بالمناقير ، فياليت بصرًا نظرت به محاسن غيره عُوِّضت العمى .
كم حصل لك الهوان بالوقوف على أبواب المخلوقين ! وكم أهانوك وأنت لا ترجع إلى مولاك !!
عن الشيخ مكين الدين الأسمر رضي الله عنه : رأيت في المنام حُورية وهي تقول: أنا لك وأنت لي، قال : فبقيت نحو شهرين أو ثلاثة أشهر لا أستطيع أن أسمع لمخلوق كلاما إلا تقيأت لأجل طيب كلامها .
كفاك من الإدبار أن تفتح عينيك في هذا الدار ، قال الله تعالى :" وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ " قدر لك الصحة والمرض والغنى والفقر والفرح، حتى تعرفه بأوصافه .
من صحبك يوما أو يومين ولم ير منك نفعا تركك وصحب غيرك ، وأنت تصحب نفسك أربعين سنة ولم تر منها نفعا فقل لها : ارجعي يا نفسي إلى رضا ربك، طالما وافقتك في شهواتك ، فتبدلي بعد البطالة بالإشغال بالله تعالى ، وبعد الكلام بالصمت ، وبعد الوقوف بالأبواب الجلوس بالخلوة ، وبعد الأنس بالمخلوقين الأنس بالخالق، وبعد قُرناء السوء مُعاشرة أهل الخير والصلاح، اجعل أحوالك ضد ما كنت عليه، اجعل بدل السهر في معصية الله السهر في طاعة الله، وبعد الإقبال على أهل الدنيا الإعراض عنهم والإقبال على الله تعالى، وبعد الإصغاء لكلامهم الإصغاء والإستماع لكلام الله عز وجل وذكره ، وبعد الأكل بالشره والشهوة الأكل القليل الذي يُعينك على الطاعة، قال الله تعالى:" وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ".
إنما عصى الله من لم يعرف ثوابه . فلو أطلعوا على عذاب الله لما غفلوا ، ولو اطلعوا على ما أعد الله لأهل الجنة لما تركوها طرفة عين.إذا صحبت أبناء الدنيا جذبوك إليها ، وإذا صحبت أبناء الآخرة جذبوك إلى الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يُحشر المرءُ على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " . كما تختار لنفسك المآكل الطيبة التي لا ضرر فيها ، والزوجة الحسناء لتتزوجها فكذلك ى تُوادد إلا من يُعرفك الطرق إلى الله سبحانه وتعالى.
أخلَّاءُ المَرْء
واعلم أن لك ثلاثة أخلاء : أحدهما : المال ، تفقده عند الموت .والثاني : العيال ، يتركونك عند القبر . والثالث : عملك ، لا يُفارقك أبدا . فاصحب من يُدخل معك قبرك وتأنس به ، فالعاقل من عقل عن الله أوامره ونواهيه .
مثالك كالجُعل يعيش في الرَّوْث والعُذرة ، وإذا قُرب إليه الورد مات من رائحته . فمن الناس من هو جُعَلِيّ الهمة ، فَراشيُّ العقل ، فإن الفَراش لا يزال يرمي نفسه في النار حتى تُحرقه ، فكذلك أنت ترمي نفسك في نار المعصية عمدًا، فلو أردت السير إلى الله تعالى لشددت المحزم ، فأين الهمة ؟ إنما تأكل لتعيش وتعيش لتأكل ، فإن فعلت ذلك فمثالك على المذاود كثير، ومثلك في الدواب كثير، فإن أسبق الخيل ما ضُمر . تقول : هذه الليلة أُقلل الأكل فإذا حضر الطعام فكأنه حبيبٌ مفارق ، ومن لم يُرد الله صلاحه تعبت فيه الأقوايل قال الله تعالى : {وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} .
ما أهربك من الهوان ، وما أوقعك فيه ! تُهين نفسك وتُلقيها في مواطن الرَّدى .
قال بعضهم : كُن مع الله تعالى كالطفل مع أمه ،كلما دفعته أمه ترامي عايها لا يعرف غيرها . يا عبد الله ، تنتخب لنفسك الطيبات ، بل تنتخب لدابتك العلف ، وتعامل الله بالمحاربة!! وربما قلَّبت عشرين بطيخة حتى تصلح لك واحدة لدهليز مرحاض ، وتقعد عند الأكل متربعا وربما طولت في الأكل ، وإذا جئت إلى الصلاة تنقرها نقر الديك ، والوساوس والخواطر الردية تأتيك في صلاتك . مثال من هذا حاله كمن نصب نفسه للهدف وقعد ، والرماح والسهام تقصده من كل جانب ، أفما هذا أحمق ؟!
فما مثالك إذا سمعت الحكمة ولم تعمل بها إلا كمثل الذي يلبس الدرع ولا يُقاتل به ألا قد سُمعَ النداء على سلعتنا فهل من مُشتر ؟ قيمتك قيمة ما أنت مشغول به ، فإن اشتغلت بالدنيا فلا قيمة لك ، لأن الدنيا كالجيفة لا قيمة لها .
أفضل ما يطلب العبد من الله تعالى أن يكون مستقيما معه، قال الله تعالى :" اهدنا الصراط المستقيم " . فاطلب منه الهداية والإستقامة وهو أن تكون مع الله في كل حال بالذي يرضى لك ، وهو ما جاء به صلى الله عليه وسلم عنه سبحانه وتعالى .
من بذل لله تعالى صِرْف الوُدّ سقاه الله صِرْف الكرم ،مثال السالك كمن يحفر على الماء قليلا قليلا حتى يجد الماء بعد التعب فينبع، ومثال المجذوب كمن أردا الماء فأمطرت له سحابة فأخذ منها ما يحتاج إليه من غير تعب .
إذا أعطيت نفسك كل ما تشتهي وتطلُبُ من الشهوات كنت كمن في بيته حية يُسمِّنها كل يوم حتى تقتله. لو جعل الله فيك الروح من غير نفس لأطعت وما عصيت ، ولو جعل فيك النفس من غير رُوح لعصيت وما أطعت فكذلك تتلون ولكن جعل فيك القلب والروح والنفس والهوى كالنحلة جعل فيها اللسع والعسل، العسل ببرِّه ، واللسع بقهره ، فأراد الله تعالى أن يكسر دعوى النفس بوجود القلب ودعوى القلب بوجود النفس .
يا عبدالله ، طلب من أن تكون له عبدا فأبيت أن تكون إلا ضدا ، إقبالك على الله إفرادُك له بالعبادة، فكيف يرضى لك أن تعبد غيره ؟! فلو أتيتنا تطلب العطاء منا ما أنصفتنا ، فكيف إذا أقبلت على من سوانا ؟!. وقفت الدنيا في طرق الآخرة ، فصرفت الوصول إليها ، ووقفت الآخرة في طرق الحق فمُنعت الوصول إليه .