معنى الفتح في كلام هؤلاء القوم(الصوفية) حيث أطلقوه كشف حجاب النفس، أو القلب، أو الروح، أو السر لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكتاب العزيز، والأحاديث الشريفة.
إذ الولي قَط لا يأتي بشرع جديد، وإنما يأتي بالفهم الجديد في الكتاب، والسنة الذي لم يكن يعرف لأحد قبله، ولذلك يستغربه كل الاستغراب من لا إيمان له بأهل الطريق، ويقول: هذا لم يقله أحد، على وجه الذم، وكان الأولى أخذه منه على وجه الاعتقاد واستفادته من قائله، ومن كان شأنه الإنكار لا ينتفع بأحد من أولياء عصره، وكفى بذلك خسراناً مبيناً، وربما يفهم المعترض من اللفظ ضد ما قصده لافظه، كما وقع لشخص من علماء بغداد أنه خرج يوماً إلى الجامع فسمع شخصاً من شربة الخمر ينشد:
إذا العشرون من شعبان ولت ... قواصل شرب ليلك بالنهار
ولا تشرب بأقداح صغار ... فإن الوقت ضاق عن الصغار
فخرج هائماً على وجهه للبراري إلى مكة، فلم يزل على ذلك الحال إلى أن مات، فما منع من سماع الأشعار، والتغزلات، إلا المحجوب الذي لم يفتح الله تعالى على عين فهم قلبه، إذ لو فتح الله تعالى على عين فهم قلبه، لنظر بصفاء الهمة، وسمع بثاقب الفهم، ونور المعرفة وأخذ الإشارة من معاني الغيب واتبع أحسن القول بحسب ما سبق إلى سره قال تعالى: " فبشر عبادِ الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب " الزمر: 17، 18. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه :( ولقد ابتلى الله هذه الطائفة الشريفة بالخلق خصوصاً أهل الجدال فقل أن تجد منهم أحداً شرح الله صرده للتصديق بولي معين، بل يقول لك: نعم نعلم أن لله تعالى أولياء وأصفياء موجودين، ولكن أين هم فلا تذكر لهم أحداً، إلا أخذ يدفعه، ويرد خصوصية الله تعالى له، ويطلق اللسان بالاحتجاج، على كونه غير ولي لله تعالى وغاب عنه أن الولي لا يعرف صفاته إلا الأولياء، فمن أين لغير الولي نفي الولاية عن إنسان.
ما ذاك إلا محض تعصب، كما نرى في زماننا هذا من إنكار ابن تيمية علينا، وعلى إخواننا من العارفين، فاحذر يا أخي ممن كان هذا وصفه وفر من مجالسته فرارك من السبع الضاري جعلنا الله وإياكم من المصدقين لأوليائه المؤمنين بكراماتهم بمنه وكرمه).
وحكى الموصلي في كتاب مناقب الأبرار عن الفضيل بن عياض رضي الله عنه، أنه كان يقول: ( إياك ومجالسة القراء، فإنهم إن أحبوك وصفوك بما ليس فيك، فغطوا عليك عيوبك، وإن أبغضوك جرحوك بما ليس فيك، وقبله الناس متهم ).
قال سيدي الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: ( وقد جرت سنة الله تعالى في أنبيائه وأصفيائه أن يسلط عليهم الخلق في مبدأ أمرهم، وفي حال نهايتهم، كلما مالت قلوبهم لغير الله تعالى، ثم تكون الدولة، والنصرة لهم في آخر الأمر، إذا أقبلوا على الله تعالى كل الإقبال. انتهى. قلت: وذلك لأن المريد السالك يتعذر عليه الخلوص والسر إلى حضرة الله عز وجل مع ميله إلى الخلق، وركونه إلى اعتقادهم فيه، فإذا آذاه الناس، وذموه، ونقصوه، ورموه بالبهتان، والزور نفرت نفسه منهم، ولم يصر عنده ركون إليهم البتة، وهناك يصفو له الوقت مع ربه، ويصح له الإقبال عليه لعدم التفاته إلى وراء، فافهم ثم إذا رجعوا بعد انتهاء سيرهم إلى إرشاد الخلق يرجعون، وعليهم خلعة الحلم، والعفو، والستر، فتحملوا أذى الخق، ورضوا عن الله تعالى في جميع ما يصرد عن عباده في حقهم فرفع الله بذلك قدرهم بين عباده، وكمل بذلك أنوارهم، وحقق بذلك ميراثهم للرسل في تحمل ما يرد عليهم من أذى الخلق، وظهر بذلك تفاوت مراتبهم، فإن الرجل يبتلي على حسب دينه قال الله تعالى: " وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا " السجدة: 24. وقال تعالى: " وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا " الأنعام: 34. وذلك لأن الكمل لا يخلو أحدهم عن هذين الشهودين، إما أن يشهد الحق تعالى بقلبه، فهو مع الحق لا التفات له إلى عباده، وإما أن يشهد الخلق فيجدهم عبيد الله تعالى، فيكرمهم لسيدهم، وإن كان مصطلماً فلا كلام لنا معه لزوال تكليفه حال اصطلامه، فعلم أنه لا بد لمن اقتفى آثار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الأولياء والعلماء أن يؤذي كما أوذوا ويقال فيه البهتان والزور كما قيل فيهم ليصبر كما صبروا، ويتخلق بالرحمة على الخلق رضي الله عنهم أجمعين.
وسمعت سيدي عليا الخواص رضي الله تعالى عنه يقول: لو أن كمال الدعاة إلى الله تعالى كان موقوفاً على إطباق الخلق على تصديقهم لكن الأولى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله، وقد صدقهم قوم، وهداهم الله بفضله، وحرم آخرون، فأشقاهم الله تعالى بعدله.
ولما كان الأولياء، والعلماء على أقدام الرسل عليهم الصلاة والسلام في مقام التأسي بهم، انقسم الناس فيهم فريقين، فريق معتقد مصدق، وفريق منتقد مكذب، كما وقع للرسل عليهم الصلاة والسلام ليحقق الله تعالى بذلك ميراثهم، فلا يصدقهم، ويعتقد صحة علومهم، وأسرارهم، إلا من أراد الله عز وجل أن يلحقه بهم ولو بعد حين، وأما المكذب لهم المنكر عليهم، فهو مطرود عن حضرتهم لا يزيده الله تعالى بذلك إلا بعداً، وإنما كان المعترف للأولياء، والعلماء بتخصيص الله تعالى لهم، وعنايته بهم، واصطفائه لهم قليلاً من الناس لغلبة الجهل بطريقهم، واستيلاء الغفلة، وكراهة غالب الناس أن يكون لأحد شرف بمنزلة، أو اختصاص حسداً من عند أنفسهم، وقد نطق الكتاب العزيز بذلك في قوم نوح عليه الصلاة والسلام فقال: " وَمَنْ آمَنَ ۚ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ " هود: 40 وقال تعالى: " وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ " هود: 17، " وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ " الأعراف: 187، يوسف: 21. وقال الله تعالى: " أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا " الفرقان: 44 وغير ذلك من الآيات، وكان الشيخ محيي الدين رضي الله عنه يقول: ومن أين لعامة الناس أن يعلموا أسرار الحق تعالى في خواص عباده من الأولياء، والعلماء، وشروق نوره في قلوبهم، ولذلك لم يجعلهم إلا مستورين عن غالب خلقه لجلالتهم عنده، ولو كانوا ظاهرين فيما بينهم، وآذاهم إنسان لكان قد بارز الله تعالى بالمحاربة، فأهلكه الله فكان سترهم عن الحق رحمة بالخلق، ومن ظهر من الأولياء للخلق، إنما يظهر لهم من حيث ظاهر علمه ووجود دلالته، وأما من حيث سر ولايته فهو باطن لم يزل، وكان الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه يقول لكل ولي ستر أو أستار نظير السبعين حجاباً التي وردت في حق الحق تعالى، حيث إنه تعالى لم يعرف إلا من ورائها فكذلك الولي، فمنهم من يكون ستره بالأسباب، ومنهم من يكون ستره بظهور العزة، والسطوة، والقهر على حسب ما يتجلى الحق تعالى لقلبه، فيقول الناس حاشا أن يكون هذا ولياً لله تعالى، وهو في هذه النفس، وذلك لأن الحق تعالى إذا تجلى على قلب العبد بصفة القهر كان قهاراً، أو بصفة الانتقام كان منتقماً، أو بصفة الرحمة، والشفقة كان مشفقاً رحيماً.
الطبقات الكبري للشعراني