ومنها عدم غفلته عن حبيبه، في حالتي إبعاده وتقريبه ، فإن المحب ولو تغافل لا يغفل فهو ذاكر للحبيب في كل حال في الإقامة والترحال. والذكر على أنواع شتى، وجميعها تحت الأكدار والأوزار حتا، وتنبت في القلوب أشجار الغيوب نبتا، وتحضر الغائب وتغيب الحاضر فلا يرى عوجا ولا أمتا، ويؤنسه تسبيحه كما آنس باطن الحوت يونس بن متى، فأول ما يكون باللسان ثم بالجنان، ثم بالروح ثم بالسر، ثم بالجملة ثم بالأركان، ثم بكلّ شعرة منك يا إنسان، ثم ترتقي من عالم شهادتك إلى عالم غيبك فترى الكل ذاكرا بالعيان ، فيذكر معك عالم الدنيا الدان ، ثم عالم فعالم حتى الثقلان ، والأماكن والأزمان، الكل يذكرون بذكرك، ويعترفون بكراماتك ورفعة قدرك، وقد جاء في الحديث القدسي :"أنا جليس من ذكرني" فمن ذكره بلسانه، كان الحق جليس لسانه، ومن ذكره بجنانه، كان جليس جنانه، وهكذا الجهري منه مقدمة السري، والسري لحظة شهود، جرّاً ورفعاً بالأسماء أو حضوراً مع وجود بغير وجود، ومتى كان الذاكر ذاكراً لذكره في ذكره فهو مع ذكره، فإذا استغرق عن ذكر ذكره فهو مع مذكوره لا مع ذكره، فإن من كان ذكره بالمذكور كان مع المذكور، والمعية تقتضي اثنينية، وهي حجاب، والحجاب رحمة على المحجوب، وعند رفع الحجاب يفنى المحجوب والحجاب، فهنا يفنى الذاكر ويبقى المذكور، فلا ذاكر له سواه، وهو سرّ :(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) أي فإن ذكركم لي ذكري لكم، إذ الوجود لي ولا وجود لكم، وهذا مقام ترك الذكر، إذ الذاكر هو الله، ولذكرُ الله أكبر، فذكر الله للعبد يفنيه، وذكر الله له يبقيه، ولا ذكر للعبد إذ لا وجود له.
والذكر الشهود عند المحققين. وقد ورد في الحديث الإلهي :"من ذكرني لم يشهد، ومن شهدني لم يذكر" أي من كان يرى له وجوداً قد ذكرني به فهو محجوب، والمحجوب لا يشهد، ومن شهد الوجود لي ولا وجود لغيري علم أني الذاكر والمذكور فلم يذكر.
والذكر يستدعي ذاكراً ومذكوراً وذكراً، والذاكر إذا كان غير المذكور كان له وجود مستقل في دعواه حتى ذكر به، ودعوى الوجود ذنب لا يقاس به ذنب، فالتوحيد الخالص توحيد الحق نفسه بنفسه لنفسه.
وفي هذا المقام بين الذكر والشهود، وتكمل فيه للكامل مطالع السعود، فصاحب اليقظة كل أوقاته ذكر وعظة، فلا يتحرك حركة إلا بذكر، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يجلس مجلساً ولا يقوم منه إلا على ذكر، وكذلك العارف المقتدي به لا يحرّك عضواً عبثاً، فإذا حرّك يده مثلاً لا يحركها إلا بذكر، وكذلك سائر أعضائه، وإذا لاكَ لقمة يلوكها بالذكر ويحضر فيها مع ربه.
ومن كان أكله بحضور ونومه كذلك كان أكله ونومه عبادة، ونال الحسنى والزيادة. ومن كان غافلاً في أي حال من أحواله، لم يسقَ من صافي جرياله(1)، فإن من أكل بغفلة سرت غفلته في طعامه، فتورث صاحبه ما في قوتها من الكدر والظلمة، فيظلم منها الباطن، وكذلك تسري غفلة الخادم في ما يتعاطاه من المأكل والمشرب فتؤثر في قلوب المتناولين.
فالذكر الحالي والقالي لا بد منهما لطالب الكمال على كل حال. ولما كان الذكر اللساني إذا تمكّن من القلب ذكر لذكره وربّما الذكر عمّ، وإذا سرى في الوجود مجرى الدم، قد ينطق لسانه بالذكر ولو لم يقصد ذلك حتى إذا غفل عنه أحياناً واستيقظ رأى لسانه ذكراً غيرغافل، وإذا تمكّن الذكر الحالي من الذاكر يغلبه الشهود حتى إنه لو تغافل ما استطاع.
والذكر القلبي سيف المريد، الذي يقطع به عنق من له بالسوء يريد، والأول أي اللساني فيه طهارة الظاهر، والثاني أي القلبي فيه طهارة الباطن، وقد يكونان في أحدهما. والأول زينة الظاهر والثاني الباطن، قال تعالى : (وثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) فطهارتها من حيث السلوك والإخلاص والتبري عن الحول والقوة، ومن حيث الحب بالاستغراق في المحبوب عمّا سواه، والغيبة به عن كل ما يراه وسواه، ومن حيث الجذب فناء وجوده بوجوده ودوام شهوده بشهوده، وبعض السالكين إذا ذكر ذكر معه كلّ شيء بلسان عموم ولسان خصوص، فإن العارف جامع لكل شيء، فإن كل شيء فيه معنى كلّ شيء، كما قاله العارف المحقق سيدي محي الدين قدس الله سره، وفي الحديث الشريف :"أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد، ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل" والباطل عدم ويقابله الوجود، وما ثمّ إلا وجود الوجود الصرف الحقي فمن ذكر بأي جارحة كانت فذكره بالحق للحق علم بذلك أم لم يعلم. لكن من علم كان علمه دليله إلى الدخول في حضرة النور، ومن جهل كان جهله سائقه لظلمة الوقوف دون الستور.