واعلم أن النفس هي السر الكامل وهي النور وهي الجمال وهي الكمال، وهذا السر ينكشف لمن سكن بلاد الذلّ والفقر ولا يرتحل منها أبداً، وأمّا إذا ارتحل عن الذل والفقر ارتحل هذا السر عنه، احب أم كره، إلا إذا كان كامل الفناء.
والعز والغنى ينتج عنهما الجهل، والفقر والذل ينتج عنهما العلم حكمة وهبية وهي أخذ العلم، والعلم حكم صفة الذات أعني العلم بالله، وأما علم المعاملات فهو حكمة أي من عالم الحكمة للعلم وتنتج ثمرته الذي هو العمل والعلم بالله إن صحبه الإخلاص، والعلم صفة العالم سبحانه وهي الدالة عليه في عالم الجهل، فالدلالة الأولى دلالة خبر النهار على النهار في الليل، والدلالة الثانية دلالة العين الصافية على الشمس الساطعة، ولولا الجهل لبطلت الدلالة عليها، ولولا العلم بها عليها لبقيَت كنزاً مطلسماً في حال ظهورها، انظر أهل الجهل الجلي كيف هي فيهم كنزٌ مطلسم من شدة ظهورها، فافهم.
واعلم أنه لولا العلم كما قلناه لما عرفها أحد، ولذلك قيل لمولانا محمد صلى الله عليه وسلم :(وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماَ) وقال صلى الله عليه وسلّم :{اطلُبوا العِلْم ولَوْ بالصّين} إلى منا لا نهاية له لفضله على غيره.
وهذا العلم ينقسم إلى قسمين :
- علم الدليل : والمطلوب العمل به وإلا فلا علم.
- وعلم الباطن : والمطلوب أيضا في بدايته العمل أكثر وأكثر وأما إذا وصل حقيقته صار عِلمُه عمَله وذلك لفناء النفوس والاستغراق في عالم المعاني عن توهم عالم المحسوس، لأن نفوس أهله تروحَنَت، فما أدركت بالعلم صار حالاً وذوقاً، بخلاف غيرهم. وهذا العلم هو الذي قال فيه الشيخ الكامل سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه :"مَن لم يتغلغل في علمنا هذا مات مُصرّاً على الكبائر وهو لا يشعر"، لأن هذا العلم بالله لله في الله، بخلاف غيره، وإمّا أن يكون بنفسه لنفسه، فافهم.
واعلم أن الجهل صفة لازمة للنفس كما أن العلم صفة لازمة للروح، وإليه الإشارة بسر قوله تعالى :( ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ )، بعد أن كان في أعلى عليين، أعني في عالم العلم بالله حيث كانت روحانيته نورانية سالمة من الأغيار والأكدار، فلما تنزلت لعالم الجلال خفي عنها حيث قابلها بما لا تفهمه، فسلط الحق تعالى عليها الأوهام فانحجبت فصار علمها وعشقها وعقلها في غير محلّه، فسميت نفساً حيث سجنت في عالم الأغيار، وذلك بظنها أنه عالم الأغيار حكم الحق تعالى بنظرتها، فصار عليها أغياراً وأكداراً إلا على من يعرّفه بالله، فإنّه عليه أنواراً وأسراراً كما هو، وهذا هو الفرق لا غير.
واعلم أن النفس لها ظاهر وباطن، ظاهرها جهل، وباطنها علم، ظاهرها فرق وباطنها جمع، ظاهرها ظلمة، وباطنها نور، ظاهرها بعد، وباطنها قرب، ظاهرها ملك، وباطنها ملكوت. ولمّا اجتمع فيها الضدان صارت محلّ نزول الأنوار، وإليه الإشارة بسر قوله تعالى :{يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ}، أعني بين عالم النفس وعالم الرّوح، ولا يمكن أن تقبل نفسُ مخلوقٍ من الأسرار ما تقبله نفسُ الآدمي، لأن ظاهرها مجموع فيه عالم الحسّ كله، وباطنها مجموع فيه أيضاً عالم المعنى كله، وكل شيء فيه دون غيرها كما قلناه من قبل.
واعلم أن النفس إذا كانت في محلّ البعد كانت صفة الجهل لازمة لها، وإذا كانت في محل القرب كانت صفة العلم لازمة لها، ومن شرفها وكمالها أن حضرة الجمع دائماً تطلبها، وحضرة الفرق دائما تطلبها. ومن كمالها أنها عاشقة أبداً معشوقةً أبداً، فمهما عشقت حضرة الجمع عشقتها حضرة الفرق، ومهما عشقت حضرة الفرق عشقتها حضرة الجمع لأنها عروسة، وهي لحضرة الجمع عروسة بالأصالة، وأما حضرة الفرق فإنها متعدية عليها لا غير، إلا حضرة علم الظاهر والعمل به فإنها حضرة فرق لا محالة لكن هي المفتاح للجمع تحوِّشُها إليه، ولا تتمكَّن منها كل التَّمكين إلا بأعمال البواطن، لأن أعمال البواطن حقائق عند أهل الظواهر وشرائع عند أهل البواطن. وحيث كانت أعمال البواطن حقائق نتجت عنها الحقائق وحيث كانت أعمال الظواهر شرائع نتجت عنه الشرائع، وكل الشرائع عند أهل الباطن حقائق لأن أعمالهم كلها بالله، ولذلك كانت أعمالهم كلها حقائق، وأهل الظواهر وإن كانت أيضاً شرائعهم حقائق لكن لا تنتج عنها إلا الشرائع لظنهم أن الأعمال كلها شرائع، قال جلّ من قائل فيما يرويه عنه نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم :(أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ).
ومن هذا المعنى كان أهل الله يزيدون إليه سبحانه بكل عمل وبكل حال وبكل قول، يزيدون بالصلاة والتلاوة، ويزيدون بالأسباب كما يزيدون بالتجريد، ويزيدون بالفقد كما يزيدون بالوجد، ويزيدون بالعز كما يزيدون بالذل، ويزيدون بالفقر كما يزيدون بالغنى، إذ ليس عندهم إلا تجلي الحقيقة في كل شيء، وحتى في نفوسهم ما تجلى فيها ظاهراً علمياً، وما تجلى فيها باطناً فعلياً، كل ذلك يرونه بالعلم أنه مظاهر الألوهية، ولا يرون سواه في المظاهر الجلالية ولا في الجمالية. فبنور الله شاهدوا مولاهم، والنور المراد به العلم بالله.