مقالة : (الرياضة)
فتجلى غير محتجب وانجلت بالنور أذهان
الرياضة
فمما أوضحه في الرياضة رضي الله عنه، فقال : أخرج نفسك في مقام الإفلاس، وأغرقها في بحار الإياس، وانزل عليها بعساكر الصفا، وقاتلها برجال الوفا، واضرب عليها سرادقات التسليم والرضا، وانشر عليها أعلام المراقبة والحياء، وأركب عليها أفراس التوكل، وأفرغ عليها مخافر اليقين، وألبس لها لباس الصبر، واعتقل لها رماح الخشوع، وأشهر لها أسياف الخوف، وتنكب لها بمتارس الرجاء، وجلْ عليها في ميدان الشوق، وأقم عليها بخفيات الذكر، وفرضيات الفكر، وقدم إليها معارج العلم وسلالم الحكم.
فإذا فعلت هذا، فاستعمل لها القناعة، وركب عليها أوتار المجاهدة، وأطرح فيها سهام المشاهدة، واجدبها بأيدي الحكمة، والزمها بكف المعرفة، وارم بنبل القرب، لعلك تحظى بحال الوصال.
فإذا فعلت هذا مع هذا، اقطع مطامعك، واترك اختيارك، وقاتل هواك، وراقب مولاك، واخط قدمين، يقال لك : ها أنت من محبوبك الله كقاب قوسين.
واعلم ياهذا أن القوم صاموا عن الصوم، وناموا عن النوم، وفنوا عن الفناء، ونودوا بلسان الأزل، من سر أسرارهم ذهب عنكم العناء، أنا أنتم، وأنتم أنان فهاموا فرحاً، وتاهوا طرباً ومرحاً فخرجوا عن وصف البشرية، وغابت نفوسهم عن نعت البنية، وطارت قلوبهم في العوالم الملكوتية، خافقة بأجنحة المشيئة، وأُلبسوا الحلل الذاتية، من مدخور الخزائن الغيبية، حتى إذا خرقوا حجب الوحدانية، وانتهوا إلى مقام الأزل والربوبية، وقفوا على بساط القدس الصمدانية، فتدور فوقهم الملائكة الكروبية والروحانية، فأخدتهم الغيرة، وانتهت بهم إلى مقام الحيرة، فطاشوا وعاشوا، ثم نسوا نفوسهم وغابوا عن ذاتهم فنظروا وعرفوا. فسقاهم الحبيب جل جلاله من شراب محبته، بكأس ودّه، على بساط قربه، فلما شربوا طاشوا، ولما طاشوا دهشوا، ولما دهشوا ماتوا، ولما ماتوا عاشوا، حتى إذا بلغوا (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ).
ناداهم الحبيب جلّ وعلا : يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون، أنتم عبادي حقّاً، ما تريدون وهو أعلم بما تريدون، فلما حكمهم تواجدوا، وقالوا ما قصدنا الجنان، ولا حورها الحسان، وإنما قصدنا من أجلها تعبنا.
قال : فتجلى لهم غير محتجب سبحانه وتعالى.
فتجلى غير محتجب وانجلت بالنور أذهان
وتمشوا والِهِين به وجيوب القوم أردان
ونالوا عند رؤية المحبوب، ما رامه المحب من المحبوب، (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ).