ولهذا قال رضي الله عنه :
وكلُّ تَكْلِيفٍ بِشَرْط الْعَقْلِ
مَعَ الْبُلُوغِ بِدَمٍ، أو حَمْلِ
أَوْ بِمَنِيٍّ أَوْ بِإنْبَاتِ الشَّعَرْ
أَوْ بِثَمَانِ عَشْرَةٍ حَوْلاً ظَهَرْ
لما ذكر أولاً ما يجب على المكلف من المعرفة والجمع بين الحالتين، أعقب التكليف بشروطه، فذكر أن شروط التكليف العقل والبلوغ، وقاعدة الشرط أن يلزم من عدمه العدم، فلو انتفى أحد الشروط لانتفى المشروط الذي هو التكليف، لأنه مقام شريف لا يطيقه الضعيف ، ومحط الوجوب في المكلف الذي توفر فيه الشرطان البلوغ والعقل، ومعنى البلوغ هو أن يكون المكلف بالغا في معرفة الله بالشهود، ومبالغا بحيث عرف معرفة لا يعتريها وهم، ويكون سبق له الاستغراق في الذات لا في وجود الصفات، كأن يكون حصل له الفناء في الأسماء أو في الأفعال أو في الصفات، ولم يكن له اطلاع على ما تقتضيه الذات من اضمحلال سائر المكونات، فهذا ليس بمكلف أن يعرف الله بسائر التجليت لعدم البلوغ في مقام الرجال، وإذا كان بالغا كما ذكرنا، فيكون في ذلك المبلغ فقيد العقل، لأن العقل مخلوق، وهو قد خرج من عالم الخلق، ومثاله كالمجذوب، فهذا ليس بمكلف أن يجمع بين المقامين المذكورين لعدم العقل، فلا يمكن له أن يكون مستغرقا في الشهود واقفا مع الحدود، فهذا لا يكون إلا للأنبياء والخواص من الأولياء، لأن العقل الذي يميز به الشواهد، ويعطيه تفصيل المراتب، غاب عنه واضمحل وتلاشى في التعظيم، فكيف يقف مع الحدود من غاب عن الوجود، أم كيف يراعي الخلق من غاب في توحيد الحق، أم كيف يثبت الأكوان من لم يجد لها مكانا ؟ كان الله ولا مكان وهو على ما عليه كان، وهل تحيز في مكان حتى يكون لذلك المكان مكان، ما ظهر المكان، إلا في نظر الصبيان؛ إذ لو كان المكان موجودا لكان بينه وبين الله حدود، تعالى الله عما يقوله الجحود، فمن كانت هذه حاله فكيف تسكن روعته ؟ فاقد الشعور، على كل حال معذور، فلا ملام لصاحب هذا المقام، فهو والله بالغ المرام. قال سيدي أبو مدين الغوث رضي الله عنه :
فلا تلم السكران في حال سكره فقد رفع التكليف في سكرنا عنا
وحاصل الأمر، إن المكلَّف بالجمع بين الحقيقة والشريعة يشترط فيه أن يكون عاقلا بالغا كما ذكرنا، والبلوغ له خمس علامات، فإذا وجدت واحدة منها في مريد التصوف وقع عليه التكليف وجوباً، بحيث يراعي سائر التجليات ويلزم آدابها، فمن علامات بلوغ المريد لمقام الرجال أن ينطق بالحكمة، أو يفهم حقائق الأسماء، أو يغيب عن حسه في مشاهدة ربه في ابتداء أمره، أو يتكلم على لسان ربه، أو يشهد له بها شيخُه وإخوانه، فإذا ظهرت علامة من هذه العلامات على ظاهر الفقير كلفناه بالأدب في سائر المظاهر، فهذه العلامات التي تظهر على ظاهره، وأما علامة بلوغ المريد في باطنه فهو يعلمها من نفسه، فينبغي له أن يلزم الأدب مع ربه، ولا يعذر بحال لكونه بالغا، فهذه علامات البلوغ. وإن زعم أحد بمقام المجاذيب، وقال بأقوالهم، وادَّعى أنه ليس بمكلَّف بالجمع بين المقامين لقوّة التجلي عليه، فننظر علامات العقل التمييزي، فإذا وجدناها فيه وقع عليه التكليف قهراً، وذلك إذا وجدناه يميز بين الحس والمعنى ويسعى في مصالح نفسه، أو يعرف حقه من حق غيره، أو يجاوب عن نفسه بحيث يقول لا و ما أشبه ذلك، وحاصله كلما قرُب من الحس قرُب من التكليف، والتكليف لا يسقط على صاحب التمييز بحال والله أعلم.