ومنها : عدم الشكوى، وإخفاء الضر والبلوى والصبر على جفاء من يهوى، حيث إنها لا تصح السلوى، وقلت كان علقم الحب لدى العاشق حلوى.
فشكوى السالك، تؤذن بعدم السلوك في هذه المسالك، لأن من سلك الفجاج وخاض تحت القسطل والعجاج، واقتحم بحر المحبّة العجاج، علم أن الصبر والرضا، بمجاري القدر والقضاء، زاد الحجاج، أهل العروج المعراج، وكان له هذا الدواء أنفع من كل علاج، واستغنى بإشراق نور عيان عن كل سراج وهّاج، ومعلوم أن من قصد السير لبلوغ الخير، ونصب شبكة الرجاء فوقع فيها المأمول.
وقال سيدي عفيف الدين التلمساني قدس الله سره في شرح منازل السائرين للهروي : (فلا يرى العبد لنفسه سخطاً ولا رضاً ولو أدخل النار، أي لا يرى شيئا بالنسبة إليه أميز من شيء ولو دخل النار، وإذ يدلّ على صحة العبودية وهو لا يحصل إلا لأهل المقام ولله الحمد، وتحققت صحبته لي في ثلاث مواطن :
أولها : أني أشرفت على القتل بسيوف الإفرنج خدلهم الله ونظرت إلى قلبي فلم أجد عنده تفاوتاً بين الحياة والموت رضاء بحكم الله تعالى لغلبة سلطان المحبة.
الموطن الثاني : أني أشرفتُ على الغرق فنظرت إلى قلبي فلم أجد عنده تفاوتاً بين الحياة والموت رضاء بحكم الله تعالى.
الموطن الثالث : قيل لي احذر من طريق الصوفية لأن فيها مذلة الأقدام فنظرت إلى قلبي، وصححت عقد الرضا مع ربي، وقلت : أُعرض بعد الإقبال، وأخافُ مع صحة صحبتي مع الله تعالى من الضلال، ففاضت عيناي بالدموع، وسرت في وجودي نشأة الخشوع والخضوع، وأخدتني حالة وجد كدتُ فيها أن أفارق نفسي، بعد غيبة حسي.
ثم إني بعد ذلك انفصلت من هذا المقام، وعدت إلى اختيار اللذات على الآلام، وإن كان قد تضاعف لي من الله سوابغ الإحسان على الآلام، وإن كان قد تضاعف لي من الله سوابغ الإحسان والإنعام).
والصراط المستقيمن عدم الاختيار والتلذذ ببلاء ونعيم، بل بالمبلي والمنعم وهذا هو الطريق القويم.
وأما المجذوب فإنه مسلوب الاختيار مع ربه، مأخود بناصيته لحضرة قربه، كيفما أراد مولاه وجهه، متحققا في قوله :{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} فما له مطلوب سواه، ولا مرغوب إلا إياه، خاض بحر أبي يزيد، أريد أن لا أريد.
ورد في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :{ثلاث من كنوز البرّ، كتمان الصدقة، وكتمان المصيبة، وكتمان الشكوى} يقول الله تعالى :{إذا ابتليتُ عبدي فصبرَ ولَمْ يَشْكُنِي إِلَى عُوَّادِهِ أبدلته لحماً خيراً من لحمه، ودماً خيراً من دمه، فإن أبرأته أبرأته ولا ذنب له، وإن توفيته إلى رحمتي} وفي رواية عنه عليه الصلاة والسلام : { ثلاث من كنوز البرّ كتمان الأوجاع والبلوى والمصائب ومن بثّ لم يصبر} وحكي عن الجنيد عن بعض أشياخه قال :(دخلتُ عليه في بيته فنظرتُ وهو سقيم دنف مضنى فقال : أتنظر إلى جسدي ولو شئت أن أقول أنّ ما بي من المحبة لم آثم، ثم احمر وجهه وكان أصفر اللون وأنشأ يقول :
ولما شكوت الحب قالت كذبتني ... فمالي أرى الأعضاء منك كواسيا
ويدك حتى ينحل الشوق والهوى ... عظامك أو يرجعن عوجاً عواريا
ويأخدك الوسواس من كل جانب.... وتخرس حتى لا تجيب المناديا
واعلم أن المجذوب، مطروب بصفاء المشروب ، فلا شكوى عنده ولا دعوى، فإن الشكوى والدعوى يؤذنان بالوجود ، ولا وجود للمجدوب حالة الشهود، فإن مقامه الصبر على الله، وهو صبر من وصل لمبادئ الفناء ففنيت بشريته، وزالت ابنيته وآنيته، وتخلّق بالأوصاف الإلهية المشار إليها بقوله عليه الصلاة والسلام :(تخلّقوا بأخلاق الله) وهذا الصبر صبر المستخلف ورثه من اسمه الصبور، والشكوى إنما تقدح في حال العبد إذا كانت لغير السيد ، وإلا فإن سيدنا أيوب عليه السلام كان يقول :{أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} وقال تعالى في وصفه : {نَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} قال سيدي محمد القرنوي قدس الله سره في شرح الأسماء: (أي وجدناه صابراً في وقت يقتضي ضعف البشرية الاضطراب بحسب ما يريده الحق منه، فغنه إذا كان ذا اختيار لم يذق طعم سيادة الحق فيوليه على نفسه إذا شاء ويعزله إذا شاءن فهو في الاختيار بحكم نفسه، والنفس تنازع الحق، وفي الاضطراب بحكم ربّه فشأن العارف الاضطراب في السكون والسكون في الاضطراب، فإن الأحوال حاكمة والمحكوم لا بدّ أن يكون تحت قهر الحاكم لنفوذ حكمه).
ومن الأول : حال سيدنا إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه لمّا قال له سيدنا جبريل عليه الصلاة والسلام وهو في المنجنيق : هل لك من حاجة ؟ قال : أما إليك فلا، فقال : سل ربك، فقال : حسبي من سؤالي علمه بحالي.
ومن الثاني : قول سيدنا أيوب صلوات الله وسلامه عليه، وقد قال بعض السادة لسان الحال أفصح من لسان المقال، فكل واحد منهما عليهما الصلاة والسلام صابرشاكر لمولاه، وقد طولب العبد بالشكر في النعمة ولو كانت نقمة عند غيره، كذلك بالصبر في النقمة وإن كانت نعمة عند الغير، والشكوى للمولى تملّق وتذلّل له، وهو تعالى يحبّ العبد المتملّق، والكامل يوفي كل مقام حقّه، ولهذا أظهر رسول الله صلى الله عليه وسلّم الجزع يوم بدر وأكثر من مناشدة الحق تعالى حتى قال بعد ما استقبل القبلة :(اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض) فما زال كذلك حتى سقط رداؤه، وكان الصديق رضي الله عنه يسكّن جأشاه ويبشّره بالنصر والظفر ولم يعلم بما قصده صلى الله عليه وسلم. وقد جاع بعض العارفين فبكى فقيل له في ذلك فقال : ما جوّعني إلاّ لأبكي، فالعارف من يصبر في الشدة ويشكر في الرخاء، ولا يشكو ربّه بل له.