فلا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا رادّ لما قضى، ولا مبدّل لما حكم، فإذا وهب عبده العاجز ما وهبه تصرف في الأكوان بإرادة سيده، وقد مثلوا لذلك مثالاً، وهو أن القطعة من الفحم إذا وقع عليها ضوء النهار، لكن لا بسبب المقابلة، بل بسبب وقوع ضوئها على الحائط مثلاً، ثم انعكس الضوء من الحائط على قطعة الفحم فأضاءت، وهذا مثال لعلم اليقين، وإذا وقع ضوء النار عليها بسبب المقابلة بأن لم يكن بينها وبين النار حجاباً، فهو مثال لعين اليقين، وإذا كانت قطعة الفحم بجانب النار، بحيث تشتعل من حرارتها، وتفنى أوصافها في أوصاف النار بحيث تتبدّل ظلمتها بإشراق النار، وبرودتها بحرارة النار، وانفعالها بفعل النار، وهذا مثال لحق اليقين.
وهذا التحقيق مأخوذ من كلام الشيخ محيى الدين وغيره، فقد قال: (ولا تعتقد أن ذات العبد تفنى في ذات الحق، فلا يبقى إلا الحق، فإن وقع من أصحاب الشطح ما يشعر بذلك ، فإن الشطح مردود على أهله).
الشطح : عبارة عن كل كلمة عليها رائحة رعونة ودعوى، وهو من زلات السالكين.
السرُّ : هو اللطيفة الربانية، وهو باطن الروح، فإن تنزّل درجة كان روحاً.
الملكوت : وهو عالم الغيب المختص بالأرواح والنفوس المجردة.
المرتبة الأحديّة : هي المرتبة المستهلك فيها جميع الأسماء والصفات، تسمى جمع الجمع.
العماء : وهو المرتبة المطلقة عن الإطلاق، وتقييد المتعالي عن التعالي والتداني، وهو البطون الذاتي العمائي، الذي لا يتصف بالحقية ولا بالخلقية، بل هو متعالِ عنهما، تضمحل فيه الأسماء والصفات كالأحدية، إلا أن الأحدية قد يُفهم معناها، والعماء لا يُفهم معناه إلا مَنْ ترقَّى من حضيض الطبيعة إلى أوج الحقيقة، وقطع المقامات كلها، فوصل إلى المقام المسمّى عند القوم بمقام العذز عن درك الإدراك إدراك.
وأما التحقّق به، فليس للمخلوق فيه نصيب، وهذا تجلي الذات، الذي مرّ أنّه ممتنع فافهم، وهنا قال الصديق رضي الله عنه : "العجز عن درك الإدراك إدراكٌ".
فالسالك يسلك على المقامات وينكشف له في كل مقام عن نور من أنوار الذات، وذلك بحسب استعداده، فيعرف بذلك النور ربّه وخالقه، فإذا سلك جميع المقامات وظن أنه قد تمَّم المعرفة وصل إلى مقام يتحقق فيه أن الذات شيء من خاصيته، إنه لا يعرف فيقول عند ذلك : "العجز عن درك الإدراك إدراكٌ".
يعني أنه قد أدرك أن الذّات لا تعرف، وهذا أعلى المقامات، ولا تظن أن صاحب هذا المقام لم يدرك شيئاً، لأن من لم يصل إلى هذا المقام فهو ناقص المعرفة، ومن وصل إليه فهو كامل المعرفة، وفي هذا المقام يقول السالك : "ربّ زدني فيك تحيّراً" يعني الحيرة المقبولة، التي تتكثر وتتنوع فيه التجليات الأسمائية والصفاتية، لا الحيرة المذمومة الحاصلة في أول السلوك، فافهم إنه دقيق.
قال الواسطي : حقيقة الحق حقيقة لا يعلمها إلا الحق.