مراقبة الأنفاس
وكما بحثنا معنى اصطلاح "السر" سلفاً، واتصاله بعلم الإشارة عند الصوفية، تعمدت كذلك إلى توضيح معنى الأنفاس، لأنها ترتبط في التصوف ارتباطاً ضرورياً ومباشراً أيضاً بتقديرهم للوقت، وبتقديس العمر البشري خدمة لطاعة الله والتقرب إليه برياضة خاصة اعتادوا أن يمارسوها هي رياضة "رعاية الأنفاس ومراقبتها".
ونظراً لأن هذا الموضوع يجيء من الموضوعات المهمة في التصوف، ونظراً لأنه هو لب كتاب "السر في أنفاس الصوفيّة" فقد يطول معنا فلا نتركه حتى نوفيه حقه ...
عرّف أبو بكر الشبلي التصوف فقال :"ضَبط حواسّك ومُراعاة أنفاسك"؛ أي ضبط الحواس الظاهرة ومراعاة الأنفاس الباطنة، فلستَ تراقب فيهما سوى الله؛ لعلمك أنه مطلع عليك في كل حال. ولكن قبل أن نخوض غمار هذه الرياضة العلوية، نُلزم أنفسنا بالتقيّد بقيود فقه الاصطلاح الصوفي، ماذا يُراد بالنَّفَس أو لاَ ؟! فهو كمفهوم صوفي وكاصطلاح دالٌّ على ما كانوا قد استنوه من حقائق أسرارهم يُراد به فيما يقول القشيري :"ترْويحُ القلوب بلطائف الغيوب"، بمعنى ترويحها للصفاء الذي تلاقيه، فهي حين تصفو تجد الراحة في نسمات تلك اللطائف الربانيّة، فبمقدار صفائها وخلوص سرائرها تهب عليها تلك اللطائف من وراء حُجُب الغيب؛ ولولا ذلك لماتوا كَمَداً كما جاء في إشارة ذي النون المصري حيث قال : "إنّ الله جعل الأنفاس راحة لأوليائه ولولا ذلك لماتوا كمداً" ولكن هذا الترويح هو في الأصل عبادة تتصل بالحضور مع المذكور دوماً في غير انقطاع. ومن هنا قالوا : "أفضل العبادات عدّ الأنفاس مع الله سبحانه وتعالى"، ولنتذكّر هذه الإشارة جيّداً، ولنذكّر معها أن العبادة مع مراقبة الأنفاس إحساس غائرٌ بالفكرة الدينية بمعناها العميق؛ إحساس ملآن بالتاهّب والاستعداد وخوض التجربة الدينية خوضا قائماً على الطهر والنظافة النفسيّة.
وفي هذا كان الإمام أحمد بن الحسين الرفاعي يقول :"من شرط الفقير أن يرى كل نَفَس أعزّ من الكبريت الأحمر، فيودع كل نَفَس أعزّ ما يصلح له فلا يضيّع له نَفَس" والمراد : مراعاة الأنفاس في جميع الأوقات على حال المراقبة لله وحده دون سواه، مراعاة الله، أي كما قال القشيري فيما روى عنه :"عدُّ الأنفاس مع الله سبحانه وتعالى"، كأن يذكر العبد مولاه على الحضور في كل نَفَس فلا يغفل عن ذكره لحظة، واللحظة هنا هي النَّفَس؛ فعَدُّ الأنفاس معه حضور بالذكر في معية المذكور حتى يفنيه به عنه؛ وهي (أي عَدُّ الأنفاس) من جملة آداب العبوديّة وأسرارها لدى القوم، وهي من غير مبالغة من صحة الكرامة المعنويّة كما شرطها ابن عربي : "أن يكون العبد طَهُورَ القلب من كل صفة مذمومة؛ وتحليته بالمراقبة مع الأنفاس" هكذا يقول ابن عربي - ومراعاة حقوق الله في نفسه، وفي الأشياء؛ وتفقد آثار ربّه في قلبه، ومراعاة أنفاسه في خروجها ودخولها؛ فيتَلَقَّاها بالأدب إذا وَرَدَتْ عليه، ويخرجها وعليها خلعة الحضور.
على أن القشيري فرّق بين الأنفاس والأحوال والأوقات، فجعل صاحب الأنفاس أرقّ وأصفى من صاحب الأحوال، فكان أن جاءت مرتبة الأنفاس أعلى المراتب ترقياً في مدارج العرفان، وأرقاها معرفة لاختصاصها بأهل السرائر، على حين تجيء الأحوال وسائط فيما بين الأوقات والأحوال؛ فصاحب الأوقات مبتدئ، وصاحب الأنفاس منتهي، وصاحب الأحوال بينهما. فالأحوال وسائط، والأنفاس نهاية الترقي، فالأوقات لأصحاب القلوب، والأحوال لأرباب الأرواح، والأنفاس لأهل السرائر.