{وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)} [سورة الروم]
يقول الحق جل جلاله: {ومن آياته} الدالة على قدرته، الشاملة للبعث وغيره: أو: ومن علامات ربوبيته: {أن خلقكم} أي: أباكم {من ترابٍ}؛ لأن أصل الإنشاء منه، {ثم إذا أنتم بشر تنتشرون} أي: ثم فاجأتم وقت كونكم بشراً منتشرين في الأرض، آدم وذريته. {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها}؛ لأن حواء خُلقت من ضلع آدم، والنساء بعدها خُلقن من أصلاب الرجال. أو: من شكل أنفسكم وجنسها، لا مِنْ جنس آخر، وذلك لما بين الاثنين- إِذْ كَانَا من جنس واحد- من الألفة والمودة والسكون، وما بين الجنسين المختلفين من التنافر. ويقال سكن إليه: إذا مال إليه. {وجعل بينكم مودة ورحمة} أي: جعل بينكم التوادد والتراحم بسبب الزواج.
الإشارة
يقول العارف بالله سيدي أحمد بن عجيبة رضي الله عنه : أصل النشأة البشرية من الطين ، وأصل الروح من نور رب العالمين . فإذا غلبت الطينة على الروح جذبتها إلى عالم الطين ، فكان همها الطين ، وهوت إلى أسفل سافلين ، فلا تجد فكرتها وحديثها ، في الغالب ، إلا في عالم الحس ، ويكون عملها كله عمل الجوارح ، يفنى بفنائها . وإذا غلبت الروح على الطينة؛ وذلك بدخول مقام الفناء ، حتى تستولي المعاني على الحسيات . وتنخنس البشرية تحت سلطان أنوار الحقيقة ، جذبتها إلى عالم الأنوار والأسرار ، فلا تجد فكرتها إلا في أنوار التوحيد وأسرار التفريد ، وعملها كله قلبي وسري . بين فكرة واعتبار ، وشهود واستبصار ، يبقى مع الروح ببقائها ، يجري عليها بعد موت البشرية ، ويبعث معها ، كما تقدم في الحديث : « يموت المرء على ما عاش عليه» .
قال القشيري : يقال : الأصل تربة ، ولكن العبرة بالتربية لا بالتربة . قلت : إذ بالتربية تغلب الروح على البشرية ، ثم قال : اصطفى الكعبة ، فهي خير من الجنة ، مع أن الجنة جواهر ويواقيت ، والكعبة حجر ومدر ، أي : كذلك المؤمن الكامل ، وإن كان أصله من الطين ، فهو أفضل من كثير العوالم اللطيفة . ثم قال في قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } الآية : رد المثل إلى المثل ، وربط الشكل بالشكل ، وجعل سكون البعض إلى البعض ، وذلك للأشباح والصور ، والأرواح صحبت الأشباح؛ كرها لا طوعا ، وأما الأسرار فمعتقة ، لا تساكن الأطلال ، ولا تتدنس بالأغيار .
قلت : وكأنه يشير إلى أن المودة التي انعقدت بين الزوجين إنما هي نفسية ، لا روحانية ، ولا سرية؛ إذ الروح والسر لا يتصور منها ميل إلى غير أسرار الذات العلية؛ إذ محبة الحق ، جذبتها عن الميل إلى شيء من السوى .
تفسير ابن عجيبة