ثم ذكر حكمة حصرها في عدد معلوم وهو خمسة فقال :
{عَلِمَ وُجُودَ الضَّعْفِ مِنْكَ فَقَلَّلَ أَعْدَادَهَا}
وهي خمس بعد أن كانت خمسين، فمن لطفه سبحانه بك أيها الإنسان قلل أعدادها مع سعة الزمان، فجعل عليك صلاة في أول نهاره شكراً لما أظهره لك من باهر أنوراه، وليكون نهوضك إليه في أول قيامك جبراً لما حصل من غفلتك في طول منامك، وجعل عليك صلاة في وسط نهاره إخماداً عنك لما أظهره في ذلك الوقت من وقود ناره، وجعل عليك صلاة قرب انصراف النهار ليكون شاهداً لك بوجود طاعتك عند الملك الغفار، ولتشهد عليك ملائكة الرحمن بالصلاة عند الملك الديان، وأوجب عليك صلاة في أول زمان الليل أستفتاحاً لذلك الزمان بوجود طاعتك كما استفتحت أول نهارك واستحفاظاً لما يتوقع من عجائب الليل، ثم لما أردت أن تنام عن سيدك وتغفل عن ربك وتتمع بفراشك، أمرك أن تودعه بحضورك معه وأن يكون آخر عهدك به وجود طاعتك ، فهذا كله جذب منه لك لحضرته واستخراج منك لشكر منتّه، عجب ربك من قوم يساقون إلى الجنة بالسلاسل.
وحين قلّل أعدادها لمّا علم احتياجك إلى منّته كثَّر أمدادها، وإليه أشار بقوله :
{وَعَلِمَ احْتِيَاجَكَ إِلَى فَضْلِهِ فَكَثَّرَ أَمْدَادَهَا}
المراد بالأمداد الجزاء الذي رتب عليها فجعل كل صلاة بعشر فهي خمس وهي خمسون خمس في الحس وخمسون في المعنى، أي الثواب، وإذا فعلت في الجماعة كانت كل واحدة بخمس وعشرين وكل درجة بعشر فكان عدد صلاة الجماعة مائتين وخمسين في كل صلاة واله ذو الفضل العظيم. وتتفاوت الدرجة أيضاً بكثرة الجماعة وكمالها وبقدر الحضور والخشوع والغيبة ورفع الستور:(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) وتتفاوت أيضاً بقدر البقع كبيت الله الحرام والمسجد النبوي وبيت المقدس وبقدر رتبة الإمام ( من صلّى خلف مغفور غفر الله له ) والله تعالى أعلم.
لكن لا ينبغي لك أيها الفقير أن تلتفت إلى هذا الحظ فإن فضل الله كثير لمن رفع همته إلى العلي الكبير، كما أبان ذلك بقوله :
{مَتى طَلَبْتَ عِوَضاً عن عَمَلٍ ، طُولِبْتَ بِوُجُودِ الصِّدقِ فِيهِ وَيَكْفي المُرِيبَ وِجْدَانُ السَّلامَةِ}
قلت : متى صدر منك عمل من أعمال البر وطلبت الحق سبحانه أن يجازيك عليه طلبك الحق تعالى بوجود الصدق فيه، وهو سر الإخلاص ولبّه الذي هو التبرّي من الحول والقوة وانعزال النفس عن رؤية العمل لها بالكلية، بعد تحقيق الحضور والسلامة من الوساوس والخواطر والهواجس، حتى تكون صلاتك بالله ولله غائباً فيها عما سواه قد ملأ قلبك عظمة الله فغبت في الله بالله، فإن تحققت فيك هذه الأمور صح لك أن تطلب ما رتب الحق سبحانه على العمل من أنواع الجزاء والأجور، وإن لم تتحقّق من نفسك هذه الأمور فاعلم أن عملك مدخول، فاستحي من الله أن تطلب الجزاء على عمل مدخول فيكفيك من الجزاء وحصول المطلب السلامة من الهلاك والعطب، يكفيك من طلب حسن نواله السلامة من عقابه ونكاله، يكفي المريب، وهو المتهم وجدان السلامة من العقوبة فيما اتهم فيه، فمن كان عند الملك متهماً وهو محبوس للعقوبة على ما اتهم فيه ثم قيل له : إن الملك يمنحك ويعطيك كذا وكذا، فيقول لهم : يكفيني في العطاء وجدان السلامة من عقوبته.
وأنت أيها الأنسان طولبت بالأعمال والإخلاص فيها وإتقانها وإتمام إقامتها فأتيت بطاعة مشوبة بالخواطر والوساوس وعلى تقدير سلامتها من ذلك فطلبك الجزاء يقتضي رؤية نفسك ووجود الفعل منك وهو شرك تستحق عليه العقوبة فيكفيك من عطائه وجود السلامة من عقابه.
قال الواسطي رضي الله عنه : العبادة إلي طلب العفو عنها أقرب منها إلى طلب الأعواض.
وقال خير النساج رضي الله عنه : ميراث أعمالك ما يليق بأفعالك فاطلب ميراث فضله فإنه أتم وأحسن وقال الله تعالى :( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) ومعني كلامه رضي الله عنه : أن جزاء أعمالك ما يليق بأفعالك الناقصة وجزاء الناقص ناقص فاطلب منه ثمرة فضله فإنه كامل من كل وجه فهو أتم وأكمل والله تعالى أعلم.
وكيف تطلب الجزاء على عمل لست له فاعلاً ولا علمت كون القبول له حاصلاً كما أشار إليه بقوله :
{لا تَطْلُبْ عِوَضاً عَلَى عَمَلٍ لَسْتَ لَهُ فَاعِلاً ، يَكْفِي مِنَ الجَزَاءِ لَكَ عَلى العَمَلِ أَنْ كَانَ لَهُ قَابِلاً }
قلت : قد تقرر عند أهل الحق أن العبد مجبور في قالب مختار فليس له فعل ولا اختيار، وإنما الفاعل هو الواحد القهار، قال تعالى :( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ)، وقال تعالى :( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) وقال تعالى :(وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) وقال صلى الله عليه وسلم :( كل شيء بقضاء وقدر حتى العجز والكيس ) أي النشاط. وقال عليه السلام : ( كلٌّ مُيسَّر لما خُلق له فأما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل الشقاوة ) ثم قرأ :(فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ) . فإذا تقرر هذا فكيف يطلب العبد الأجر على عمل ليس هو فاعله، وعلى تقدير نسبته إليه فالجزاء متوقف عى القبول فمن أين تدري هل يكون مقبولاً أم لا، وإذا تفضل عليك بالقبول على ما هو عليه من النقص والخلل فهذا يكفيك في جزائك على العمل فلولا جميل ستره لم يكن عمل أهلاً للقبول فلولا أن الله سبحانه تفضل على عباده بالعفو والحلم ما قبل عملاً قط إذ تصفية الأعمال كاد أن تكون من المحال. قال الله تعالى :( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) أي عظّموه حق تعظيمه، وقال تعالى :( كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ) أي لم يقض الأنسان ما أمره سيده على الوجه الذي أمر به. وانظر قوله تعالى :(أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا) لم يقل الحق تعالى : نتقبّل منهم لأنه يقتضي أنه كامل بل عداه بعن المفيدة للتجاوز، كأنه قال : أولئك الذين يتجاوز عنهم في أحسن ما عملوا فنتقبلها منهم، ولو لم يتجاوز عنهم فيها ما تقبلت منهم ولكن الكريم لا ينتقد بل يقبل كل ما يعطاه لعظيم كرمه وغناه. فالحمد دائماً لله حيث خلق فينا العمل وأعطانا عليه غاية المنى والأمل.