وهنا لا بدّ من الفرق بين الربوبيّة، كمصدر أصليّ، وبين العبودية، كسبب مسخّر من أعلى، أو بين الحقيقة الإلهية الصّرمديّة، كوجود حقيقيّ، حيّ باقؤ، مدبِّر للأشياء، وبين الوجود البشريّ الموقت، كوجود وهميّ. هالك فان، مصيّر غير مخيّر. ولو كان ذا مقام روحيّ عال. ما دام مقامه يقع تحت حكم قوله تعالى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (128) مع العلم بأن الإسلام - وإن اعترف بوسائط معنويّة بشريّة صالحَة، اقتضتها حكمته تعالى، كسبب الهداية - لا مكان فيه للوسائط الدعائيّة الوهميّة، التي تنصب نفسها. ومن يتوهّم أو يوهم الناس أنّه يضمن الهداية بنفسه، بدل أن تضمن بإذن الله مشعوذ وضالّ مضلّ.. والله تعالى قد وضع بيد المؤمن معياريْن أساسييْن : معيار العقل ليفرّق به بين الحسن والقبيح، ومعيار الشّرع - وفوقه القرآن - ليفرّق به بين الحقّ والباطل {إنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}(129).والله تعالى لم يترك عباده بدون هُداة صالحين، يدلّون على حقيقته، ويرشدون إلى شرائعه. وقد اتّخد الناس المرسلين والأولياء والعارفين وسائل معنويّة إرشادية، يستنيرون بهديهم في طريق معرفته، والتحقّق من أحكام شريعته. وقد أمرهم بذلك في قوله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}الوسيلة العلميّة هي التقوى، والوسيلة الإرشادية هي الهداة. عملا بقوله تعالى :{إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}(130) فالهداة من الأولياء والعارفين، بعد المرسلين، هم خبراء حقيقيّون في الدلالة على الله. وعلى الناس أن يسألوهم عن حقيقته. ومن أنكر ذلك أنكر شرع الله. فالله تعالى يقول :{الرَّحْمَٰنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا}فاسأل به هو.. والضمير في "فَاسْأَلْ بِهِ" وفي "وَابْتَغُوا إِلَيْهِ" راجع إلى ذاته تعالى، كما تقدّم عند الاستدلال بالآيتيْن في نقطة مشابهة سابقة، ثم مَن الخبير في الدلالة على ذات الرحمن ؟ الفقيه أم المفكّر أم العارف بالله ؟ من البديهي أن يكون الفقيه خبيرا في شرعه، والعارف خبيراً في الدلالة على حقيقته.. فتكون الوسيلة إلى معرفته؛ بعد تصحيح العقيدة بوجوده، ثم الوسيلة إلى شرعه، وتعلّم ما شرعه من الأحكام. فهو تعالى أصل، والشرع فرع، والفرع تابع للأصل. وإن كان الفرع هو الآخر مقدّسا بقداسة المشرّع وشريفا بشرفه. وهو الأساس المرحليّ إلى المعرفة.وبذلك يتّضح أنْ ليس هناك وسائط بشريّة بين العبد وربّه، كما يُدَنْدِنُ به البعض. وإنما هناك وسائط معنويّة، كسبب الهداية. نتائجها تقع بيد الله، كما تقع الاستجابة في التوسّل والدعاء بيده.
** ** **
(128) - سورة الرحمن : 27(129) سورة الإسراء : 9
(130) سورة الرعد : 7