قال الشيخ ابن عربي قدّس الله سرّه :كل منحة وافقت هواك فهي: محنة، وكل محنة خالفت هواك في منحة.
ثم أيد الحكم المذكور فقال: (كل منحة وافقت هواك فهي محنة): منحه كمنعه وضربه أي : أعطاه، والاسم (المنحة) بالكسر فهي بمعنى : العطية اسم لما يُعطى، و (المحنة) اسم للتعب والمشقات، وفي الأصل محنه كمنعه أي : ضربه، والمنح بلا تاء اللين من كل شيء أي : كل عطية ونعمة (وافقت هواك فهي) أي : تلك المنحة الموافقة لهواك محنة أي تعب عليك، ونقمة لك في الحقيقة لا نعمة ورحمة، والمراد بالمنحة الموافقات للهوى التي تكون محنة اللائمة للطبع الموافقة للنفس المبعدة للقلب عن الله سبحانه وتعالى، وأمّا نفس المنحة للهوى ليست موجبة للمحنة؛ لأن الرزق اللذيذ الملائم للطبع الموافق للهوى إذا كان حلالاً بحسب الشّرع ليس بمحنة لخلوصه عن تبعة العذاب يوم القيامة، فالمنحة الموافقة للهوى التي هي المنحة هي : الرحمة الممتزجة مع النقمة فظاهرها رحمة وباطنها نقمة، وقد تكون رحمة خالصة، أو ممتزجة لكن ظاهرها نقمة وباطنها رحمة كشرب الدواء الكريه الذي لا يُلائم الطبع في الحال، لكنه تعقبه الراحة وزوال ما لا يلائم بحسب المال، وهاتين المنحتين ما فيهما ضرر لكن في كل ضرر من حيث عدم شهود المنعم معه؛ لأن كل التذاذ يصحبه فرح وسرور بالملتذ به مما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين لا كمال ولا صحة له إلاّ بالهناء، ولا هناء إلا بشهود منة المنعم، ولا شهود لها إلا بشهود المان بالفضل والإحسان سواء كان في هذه الدّار أو في تلك الدار، أمَّا الشهود في هذه الدار فبالبصيرة فقط، وأمّا في تلك الدار فبالبصر والبصيرة.
فلولا تجلي المنعم بالإحسان ما صحَّ نعيم المنعم عليه أصلاً، وإذا تجلّى بالجمال لأنّ النقمة والعذاب بوجود الحجاب، والنعيم بظهور التجلي، فكل من فرح بالنعمة بمجرد وجود المتعة فيها بدون ملاحظة مُنعمها ومُوجدها فهو من الذين غفلوا بالنعمة عن المنعم ونسوها بها فإنّما هممهم مقصورة على ملذهم من الأكل والشرب وغيرهما.
وهو الذي صدق عليه قوله تعالى : (حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً). وقال الله تعالى :(سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ) أي : كلما جدّدوا معصية جدّدناهم نعمة، وأنسيناهم الاستغفار من تلك المعصية حتى ركنوا إلى النعمة، وغفلوا عن المنعم. قاله : سهل بن عبد الله رحمه الله.
ومن فرح بها من حيث شهودها من المنعم، وممن وصل إيَّاها فهو من الموقنين القائمين بالشريعة دون الحقيقة لمشاهدة نسبة الخلق، ىفهو ممَّن يُوجَّه إليه قوله تعالى : ( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أي من كل شيء حتى عن عبادتهم وأحوالهم ومقاماتهم، ومن فرح بالنعمة بالله من حيث كمال ذاته، وتقدس أسمائه، وجلال صفاته، وكمال أفعاله من غير اشتغاله بالمتعة أي : متعة النعمة ولا بباطنها من أنعام المنعم، فهو ليس من الغافلين، ولا من الذّاكرين الذين شغلهم الإنعام عن المنعم، بل هو مشاهد له لا يشهد إلا إيّاه، ولو كُلِّف مشاهدة غير المنعم ما أطاقه لاستغراقه في شهود الله تعالى وانجماع سره عليه، فهو الذي صدق عليه قوله تعالى : (قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) أي : قل، واذكر الله، وعَوِّل عليه، واكتفي به عن كل شيء سواه، ثم اتركهم في خوضهم يلعبون أي : يتشاغلون بما لا حقيقة له؛ لأنه معنى اللعب والوجود كله كذلك من حيث التحقيق قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم :( أَصْدَقَ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَاعِرٌ لَبِيدٍ : أَلا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلا اللَّهَ بَاطِلٌ).
والمصراع الثاني هو : وكل نعيم لا محالة زائل وإن كان صادقا، لكن المصراع الأول أصدق، فالمقصود التام وما هو بساط المعرفة تزكية النفس وتطهيرها من جميع العيوب، والعيوب : كل ما أوجب نقصاً معصية أو غير في الأفعال أو الأخلاق أو الآداب مع الله أو مع خلقه، فإذا عرفت ما تقرر فكل ما وافق هواك يُبعدك عن مولاك فالمطلوب منك مخالفة هواك، إذ لا منازع يُنازع مع الحق إلاّ الهوى، كما ورد في بعض الأخبار.