فإِن قال قائل: لو أن طريق التصوف أمر مشروع، لوضع فيه الأئمة المجتهدون كتباً، ولا نرى لهم قط كتاباً في ذلك؟
قلنا له : إِنما لم يضع المجتهدون في ذلك كتاباً لقلة الأمراض في أهل عصرهم، وكثرة سلامتهم من الرياء والنفاق. ثم بتقدير عدم سلامة أهل عصرهم من ذلك، فكان ذلك في بعض أناس قليلين، لا يكاد يظهر لهم عيب. وكان معظم همة المجتهدين إِذ ذاك إِنما هو في جمع الأدلة المنتشرة في المدائن والثغور مع أئمة التابعين وتابعيهم، التي هي مادة كل علم، وبها يُعرف موازين جميع الأحكام، فكان ذلك أهم من الاشتغال بمناقشة بعض أناس في أعمالهم القلبية التي لا يظهر بها شعار الدين، وقد لا يقعون بها في حكم الأصل.
ولا يقول عاقل قط : إِن مثل الإِمام أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد رضي الله عنهم، يعلم أحدهم من نفسه رياءً أو عُجباً أو كبراً أو حسداً أو نفاقاً ثم لا يجاهد نفسه ولا يناقشها أبداً. ولولا أنهم يعلمون سلامتهم من تلك الآفات والأمراض لقدموا الاشتغال بعلاجها على كل علم، فافهم.
وقال القشيري رحمه الله: وأصل تسمية الصوفية صوفية كان حين ظهرت الأهواء والبدع في عصر الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، فسموا كل من تمسك بالكتاب والسنة وعمل بهما صوفياً دون غيره، قال : وقد روينا عن الإمام أبي القاسم الجنيد رضي الله عنه يقول : طريقتنا هذه مشيدة بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به فيها.
وقال الشيخ محيي الدين في الباب الثالث والسبعين من الفتوحات : اعلم أنه ما تم لنا دليل يرد طريق الصوفية، ولا قادح يقدح فيها شرعاً ولا نقلاًن وإنما يطعن فيها من طعن بالجهل.
وسمعتُ سيدي علياً الخواص رحمه الله يقول : قد أجمع أشياخ الطريق على أنه لا يجوز لأحد التصدر لتربية المريدين إلا بعد تبحره في الشريعة وآلاتها كما دل عليه السادة الشاذلية، فكان الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه، وسيدي أبو العباس المرسي وسيدي ياقوت العرشي، والشيخ تاج الدين بن عطاء الله، لا يدخلون أحداً في الطريق إلا بعد تبحره في علوم الشريعة، بحيث يقطع العلماء في مجالس المناظرة بالحجج الواضحة، فإن لم يتبحر كذلك لا يأخذون عليه العهد أبداً، وهذا الأمر قد صار أهله في هذا الزمان اعز من الكبريت الأحمر، فعلم أن كل من لم يسلك الطريق على هذه القواعد لا يقدر على التخلق بشيء من أخلاق هذا الكتاب، وقد قالوا من ضيع الأصول حرم الوصول.
وكان سيدي علياً الخواص رحمه الله يقول : لا يصح لعبد ابتداء السير في طريق العارفين حتى يزهد في نعيم الدارين، ولا يكون له محبوب إلا الله تعالى ورسوله، وكُمل ورثته.
لطائف المنن والأخلاق في وجوب
التحدث بنعمة الله على الإطلاق