شرح حكم الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي
تأليف : مُلَا حسن بن موسى الباني القادري
قال الشيخ ابن عربي قدّس الله سرّه: (لا تصْحَبْ مِنَ الرِّجَال إلّا مَنْ كانَ حَالُهُ يُترجم دون المَقال) أي: لا تصحب أيُّها السالك الطالب للكمال إلا الرجال؛ لأن جليس الصالح صالح، وجليس الطالح طالح؛ لأن المجاورة لها أثر شديد في الحيوان والنبات والجماد، فالماء والهواء يُفسدان بمقارنة الجيفة، والجمل الشرود يصير ذلولاً بمقارنته الجمل الذلول، والزرع والنبات يفسدُ كل منهما بمقارنة الأرض المفسدة، فإذا كانت المجاورة والمقارنة مؤثرة في هذه الأشياء المذكورة، ففي النفوس الإنسانية أشدَّ تأثيراً، فإذا قرّرنا هذا، فالنظرإلى أهل الصلاح يؤثرُ صلاحًا، وإلى أهل الفساد يؤثرُ فساداً، كما أن دوام النظر إلى المحزون يحزنُ، وإلى المسرور يُسرّ، (ومن الرجال) لا تصحب منهم أحد إلا الذي كان (حاله يترجم عنه) ليدل على كونه رجلا (دون المقال) أي : لا تصحب الرجل الذي يترجم عنه، ويدلُّ عليه مقاله؛ لأن المعتبر عند القوم وغيرهم من العلماء العاملين الحال دون المقال؛ لأن الحال باطن، والمقال ظاهر ولا اعتبار للظاهر إلا بتبعية الباطن؛ إذ لولاه ما عُلم الباطن.
والمراد (بالرجل) في اصطلاحهم الذي يكون من صفوة خلاصة خاصة الخاصة من المحقّقين، وهو الإنسان الكامل الجامع للفضائل والفواضل الفاني في الله الباقي بالله، المؤيد بتدبير الله، المنقطع عن الشهوات، المنفرد من أبناء جنسه بالرياضات والخلوات، العابر في السير والسلوك على المراتب والمقامات، البرزخ بين قوسي الوجوب، وإلا ما كان الظاهر فيه مفهوم، قوله تعالى :(كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) لا يغرب عن علمه شيء في الأرض، ولا في السماوات لا من الواجبات، ولا من الممكنات، وقد ذكرنا سابقاً رجال الطريق وأوصافهم في شرح قوله : (مَن لم يأخد الطريق عن الرجال، فهو ينتقل من حال إلى حال) فالرجل هو البالغ الكامل الرشيد، ولا يكون كاملاً رشيداً إلاّ إذا كان موصوفاًُ بالأوصاف المذكورة، ومتأدِّباً بالآداب المسطورة، وإلا فهو طفلٌ صغيرٌ غير مميز، وامرأة أو خنثى، ولهذا السرّ كانتْ أخت الحسن البصري قُدِّسَ سرّه تكشف بعض وجهها، وتستر بعضه عن الناس فقيل لها : هل لا تستحي من الله ؟ أو من أخيك ؟ أو من الناس ؟ فقالت : أستحي من الله، فقيل لها : كيف ؟ والكشف حرام عليك والستر واجب، وأنت أخت الحسن البصري، فلا يليق مثل هذا بأمثالك، فقالت : الله تعالى حرّم علينا الكشف للرجال، وأنا لا أرى رجلاً في هذه المدينة حتى أستر عنه إلا الحسن البصري، وهو نصف رجل لا رجل كامل، فلو لم يكن هو لما غطيتُ هذا النصف من الوجه أيضاً. فتأمّل هذا، وليس فيه مصادمة الشريعة النبويّة؛ إذ لا يعرف بلسان الأخرس إلا الأخرس أو أمُّه فافهم.