ليكمل الاهتمام، وتزداد الرعاية، ويتجسد الاحترام والتوقير للزوايا وأهلها، والطرق الصوفية وشيوخها القائمين عليها مع العرش العلوي المجيد، وعياً منهم بمكانتهم في تربية الإنسان على الكمالات الربانية، واستحضارا منهم للقيم الروحية والأخلاقية التي يحملها التصوف في تزكية النفوس وتهذيبها حسب ما جاءت به الشريعة السمحاء، ودوره في حفظ الأمن الروحي للفرد والمجتمع، فيتحقق بذلك الأمن الحضاري والاقتصادي والاجتماعي والسياسي...، فيعم السلام، والوحدة والوئام، وتنتفي أسباب الفرقة والاختلاف بين مكونات المجتمع المغربي.
وتجدر الإشارة إلى أن الظهائر التي أصدرها سلاطين الدولة العلوية في حق أهل الله تعالى كانت على أربعة أنواع:
- التوقير والاحترام الموجه للزاوية وشيوخها وتجديد كل سلطان له.
- تعيين مقدم الزاوية أو إقراره في منصبه.
- حل الخصومات الواقعة فيما بينهم أو مع منازعيهم.
- الإنعام عليهم.
ذلك الإنعام الذي بلغ مداه في عهد المملكة العلوية الشريفة، بتشييد الأضرحة وترميمها وصيانتها، إكراما لساكنيها، فقد "جدد المولى إسماعيل ضريح أبي القنادل سيدي يوسف، وضريح أحمد الشبلي، وعبد الله القصري، وأسس الضريح الإدريسي عام 1110، فقامت حوله مدينة زرهون، وأسس السلطان سيدي محمد بن عبد الله ضريح سيدي محمد بن عيسى بمكناس، وبنى قبة سيدي سعيد بن عثمان، وجدد بناء الضريح الإدريسي...، وقد جدد مولاي الحسن ضريح سيدي أحمد بن يحيى في باب الجيسة عام 1307، وبنى قبته وزاد في مسجد ضريح عبد القادر العلمي لما كثر أتباعه".
وكان أعظم ملوك العلويين مولاي يوسف ابن السلطان مولاي الحسن (1297ﮬ-1881م) ينحو منحى أهل التصوف، وكان "شديد الاعتناء بالسنة النبوية، محافظا على الشريعة الإسلامية، مهتما بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فكان يستغل المناسبات الدينية للاحتفال بالأعياد الدينية الإسلامية، مثل عيد المولد النبوي وليلة القدر...، وكان مولاي يوسف مواظبا على تلاوة بعض الأذكار والأوراد التي كان يحفظها، لأنه كان منتميا إلى الطائفة الدرقاوية".
ولم يقف اهتمامه بالتصوف عند أخذ العهد، بل أصدر ظهائر شريفة تظهر بجلاء مدى التوقير وجميل الاعتقاد في أهل الله تعالى الصالحين المصلحين، يقول زين العابدين العلوي: "وبتاريخ 23 ربيع الثاني 1344ھ موافق 10 نونبر 1925م، أصدر السلطان المولى يوسف ظهيرا شريفا يعطي فيه صلاحية تسيير الشؤون الحبسية للزاوية الدرقاوية بمراكش، لكل من الشريف الكبير العلوي الدرقاوي حفيد شيخ الزاوية سيدي محمد العربي، والفقيه سيدي هاشم المنحدر من سيدي عبد الرحمان الدرقاوي أحد الشيوخ القدماء للزاوية. وبتاريخ 8 ذي القعدة 1345ھ موافق 10 ماي 1927، صدر ظهير يعين بموجبه الطالب عبد الحفيظ بن الحسين ابن إبراهيم مقدما على الزاوية الناصرية بمراكش مكان والده الهالك...".
وفي كلمته إلى ندوة الطرق الصوفية، دورة الطريقة التجانية، قال جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني رحمة الله عليه: "إن تاريخ الأسرة العلوية حافل بمظاهر التكريم والتقدير التي كان يضفيها ملوك هذه الأسرة الأماجد على الطرق الصوفية عموما، وعلى الطريقة التجانية خصوصا، فقد أصدروا ظهائر التوقير والاحترام لمشايخ الطريقة، وبذلوا في العناية بهم والرعاية لهم ولزواياهم ما هو معروف ومشهور، ويكفي أن نذكر في هذا الصدد ما لقيه الشيخ أحمد التجاني رضي الله عنه من التكريم والتعظيم والإعزاز على يد عمنا السلطان مولاي سليمان قدس الله روحه، وما تلقاه الشيخ عمر الفوتي تغمده الله بواسع رحمته وهو يجاهد في سبيل نشر الإسلام في إفريقيا من الدعم والسند من جدنا السلطان مولاي عبد الرحمان طيب الله ثراه...، وما كان من صلات متينة أكيدة بين والدنا جلالة المغفور له محمد الخامس نوّر الله ضريحه وكبار مشايخ الطريقة التيجانية...".
لقد شكّل التصوف داخل العقلية العلوية الشريفة أحد الدعامات الكبرى التي حافظت على الأمن الروحي للمغرب، لأن أهله تمسكوا بثوابت الهوية الدينية والوطنية اعتقادا وتطبيقا، وتعليما ونشرا وتأليفا، وتميزوا بصناعة النماذج الصالحة والتي بصمت تاريخ المغرب بآثارها الخالدة والناصعة، والمرصعة بأخلاق الوسطية والاعتدال، والتسامح والانفتاح على مختلف الحضارات، وحسن التعايش مع مختلف الديانات السماوية، وهو الظاهر من خلال كلام جلالة المغفور له الحسن الثاني طيب الله ثراه، يقول مبرزا مزايا التصوف بالمغرب: "إذا كان عامة المسلمين وخاصتهم من العلماء والعارفين على تعاقب العصور والأجيال قد اهتموا بالتصوف منبعا وسلوكا، وتشبعوا به قولا وعملا، حتى أكسبهم ما أكسبهم من القوة والصلاح، فإنهم اليوم في أمس الحاجة إلى هذا الاهتمام والتعرف إلى فضائل التصوف ومزاياه، والاستمداد من الطاقة الإيمانية والأسرار الربانية الكامنة في المبادئ الصوفية، لعلاج ما آلت إليه أحوال المسلمين أفرادا وجماعات من فتور في المبادئ الخالدة، واغترار بالتيارات الفكرية المادية، واندفاع وراء سرابها الكاذب وبريقها الخادع، ووقوع في أشراك الخلاف والنزاع والصراع ومهاوي الفرقة والشتات والإعراض من الاعتصام بحبل الله المتين".
ويتواصل الدعم العلوي للطرق الصوفية بتنظيم اللقاءات والندوات والمؤتمرات التي تجمع وتقرب بين الطرق الصوفية، من مختلف أنحاء المعمور، يقول أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس أيده الله: "فقد أذنا لوزيرنا في الأوقاف والشؤون الإسلامية، بأن يتم تنظيم هذه اللقاءات، في صيغتها العالمية، كل عامين، في فصل الربيع. كما أمرناه بإقامة لقاء وطني منتظم، حتى يتاح لفعاليات مختلف الطرق والزوايا، المكونة للنسيج الصوفي بمملكتنا الشريفة، المشاركة على الوجه المرضي، كما وكيفا، في كل ما من شأنه دعم القيم الروحية، والفضائل الربانية، والتأطير الأخلاقي للمجتمع. وهو ما اضطلعت بها طرق التصوف وزواياه في بلدنا، على امتداد العصور".
فقد أدرك العلويون الأدوار الطلائعية للتصوف في إصلاح المجتمع بأكمله، إذ شكّل عبر تاريخ المغرب المدرسة التي تُعلِّمُ الإنسان كيف يتعامل مع الأكوان، فقد أذاق الإنسان حلاوة الإسلام عبر القرون، فهو مفتاح عودة الأمة إلى النجاح، وهو طريق النصر، وفلسفة حياة لإسعاد النفس، يمتلك من المقومات ما يجعله قادرا على استئصال مكامن الشر، يقول أمير المؤمنين حامي حمى الملة والدين جلالة الملك محمد السادس حفظه الله: "إن رعايتنا لأحوال الزوايا، على غرار سنن أجدادنا الميامين، تقدير عميق من جلالتنا، لإسهام الطرق الصوفية المغربية في الإرشاد الروحي، ونشر العلم والتنمية، والدفاع عن حوزة الوطن ووحدته، وتماسك المجتمع، وتثبيت الهوية الدينية للمغاربة. والتصوف، وإن كان مداره على التربية وترقية النفس في مدارج السلوك، فإن له تجليات على المجتمع. ومن هذه التجليات ما يظهر في أعمال التضامن والتكافل، وحب الخير للغير، والحلم والتسامح ومخاطبة الوجدان والقلوب، بما ينفعها ويقومها".
إنه التحام ووئام بين التصوف وسلاطين العرش العلوي المجيد لإيقانهم بأن التصوف معين لا ينضب، وضرورة روحية تربوية سلوكية لا بد من التوسل بها في علاج مشكلات العصر، وفي ذلك يقول راعي التصوف والصوفية جلالة الملك محمد السادس نصره الله: "تعلمون علم اليقين، أن عالم اليوم، بما يطرح على الإنسانية من تحديات، وما يواجه فيه المسلمون خاصة، من عويص المشكلات، عالم يواجهكم بأسئلته، ويستنهض عزائمكم، بما ينتظره منكم من الأجوبة الملائمة، وأنتم الذين رفعتم على الدوام شعار: الصوفي ابن زمنه ووقته. فقد أنتجت المدرسة الصوفية المغربية، كثيرا من الصالحين المصلحين، الذين كانوا بأوقاتهم وأزمانهم عارفين. فهم الذين تشهد آثارهم على أنهم فهموا الدين فهمه المقاصدي الرصين، المليء بمعاني المحبة والإخاء، حيث أوتوا من نفاذ البصيرة ما جعلهم يشخصون العلل، ويعرفون كيف يعالجونها، ويتعرفون على المصالح ويجلبونها. فكانوا في كل وقت وزمان، يدلون الناس على ما يصلح من شأنهم، ويرشدونهم إلى التعلق بخالقهم، والتراحم فيما بينهم. وكل ذلك في لين ورفق، مع الحث على محاسبة النفس ومخالفة هواها، والأخذ بعزائم الأمور وابتغاء أعلاها. موقنين أن متاع الحياة الدنيا إلى زوال، عاملين على إصلاح نفوسهم، وتزكية أخلاقهم، والسمو بأرواحهم. سالكين من أجل ذلك، طرقا تعددت أساليبها ومناهجها، وتوحدت مقاصدها وغاياتها".
فكانت بذلك غاية سلاطين الدولة المغربية على مر العصور توقير الصالحين والأولياء وإكرامهم، لعلمهم بمنزلتهم وعلو شأنهم، فجعلوهم عبر تاريخ المغرب الطويل محط عنايتهم ورعايتهم، فلم يتوانوا في خدمتهم والوقوف على أمورهم، وما كان من هؤلاء الصالحين المصلحين إلا أن قدموا خدمات جليلة لبلدهم المغرب بحماية ثغوره والدفاع عن أراضيه، فشكلوا بذلك الحصن المنيع الذي يستحيل اختراقه أو تعديه، إنه فعلا إمداد واستمداد...
(بتصرف)
المصدر : هنا