آخر الأخبار

جاري التحميل ...

العلم النافع هو المخمد للهوى القامع للنفس



{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلْمَجَالِسِ فَٱفْسَحُواْ يَفْسَحِ ٱللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَانشُزُواْ يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}
يقول الحق جلّ جلاله: { يا أيها الذينَ آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجلس } [المجادلة: 11] أي: توسَعوا فيه، والمراد: مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا يتضامُّون فيه تنافساً فيه صلى الله عليه وسلم وحرصاً على استماع كلامه. وقيل: المراد: مجالس القتال، وهي مراكز الغزاة، كقوله تعالى:{ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } [آل عمران: 121] قيل: كان الرجل يأتي الصف، فيقول: تفَسَّحوا، فيأبَوا، لحرصهم. والأول أنسب بذكر النجوى أولاً وثانياً. فإن امتثلتم وتفسحتم { يَفْسَحِ اللهُ لكم } في كل ما تريدون التفسُّح فيه، من الرزق، والدار، والصدر، والقبر، والجنة، والعلم، والمعرفة. { وإِذا قيل انشُزُوا } أي: ارتفعوا من مجلسه، وانهضوا للصلاة، أو الجهاد، أو غيرهما من أعمال البر، أو: انشزوا للتوسعة في المجلس على المقبِلين، { فانشُزُوا } أي: فانهضوا ولا تُبطِئوا، وقيل: كانوا يُطيلون الجلوس معه صلى الله عليه وسلم وربما جلس قوم حتى يؤمروا بالقيام، فأُمروا بالقيام وعدم التثقيل. { يَرْفَعِ اللّهُ الذين آمنوا منكم } بامتثال أوامره وأَمْرِ رسوله، بالنصر وحسن الذكر في الدنيا، والإيواء إلى غرف الجنان في الآخرة. { و } يرفع { الذين أُوتوا العلمَ } خصوصاً { درجاتٍ } عالية، بما جمعوا من أثريْ العلم والعمل، فإنّ العلم مع علو رتبته يزيد مع العمل رفعةً لا يُدرك شأوها، بخلاف العلم العاري عن العمل، وإن كان له شرف في الجملة، ولذلك يُقتدى بالعالِم في أفعاله فقط. وفي هذه الدرجات قولان، أحدهما: في الدنيا، في الرتبة والشرف والتعظيم. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: " فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدرعلى سائر الكواكب " ، وعنه صلى الله عليه وسلم: " عبادة العالم يوماً واحداً تعدل عبادة العابد أربعين سنة " يعني الجاهل، وعنه صلى الله عليه وسلم: " يشفعُ يومَ القيامة ثلاثةٌ: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء " ، فأَعْظِم بمرتبةٍ هي واسطة بين النبوة والشهادة، بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشمل الحديث العلماء بالله وبأحكام الله، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: خُيّر سليمان عليه السلام بين العلم والمال والمُلك، فاخترا العلم، فأعطى المالَ والمُلكَ معه.
الإشارة 

ما قيل في مجلس العلم يقال في مجلس الوعظ ، بل هو عينه؛ لأنه العلم النافع ، فإذا قدم واحد من الفقراء أو غيرهم لمجلس الشيخ ، فوجد فرجة جلس فيها ، وإلا جلس خلف الحلقة ، ولو مع النعال ، فلا يزاحم ولا يقم أحدا ليجلس ، إلا أن يأمره الشيخ بالتقدم لمنفعة فيه في إعانة الشيخ ، فليتقدم برفق ولطافة وأدب . وإذا قيل لأهل المجلس : تفسحوا فليتفسحوا ، يفسح الله لهم في العلم والعرفان ، والأخلاق والوجدان ، والمقامات ، وسائر ما يطلب التوسع فيه . وإذا قيل : انشزوا لصلاة أو خدمة أو ملاقاة ، فانشزوا ، يرفع الله الذين آمنوا منكم ، وليس فيهم أهلية لصريح المعرفة درجة عن العامة ، حيث صحبوا العارفين للتبرك والحرمة . ويرفع الذين أتوا العلم بالذات ، على سبيل الكشف والعيان ، درجات ، سبعمائة درجة ، على العالم صاحب الدليل والبرهان ، فيرفع العالم فوق الجاهل سبعمائة درجة ، ويرفع العارف فوق العالم سبعمائة . فالناس أربع طبقات : الطبعة العيا الأولياء والعارفون بالله ، ثم العلماء ، ثم الصالحون ، ثم عامة المؤمنين . والمراد بالأولياء من من الله عليه بملاقاة شيخ التربية ، حتى دخل مقام الفناء والبقاء ، زاح عنه حجاب الكائنات ، وأفضى إلى شهود المكون ، فهؤلاء هم المقربون الصديقون ، والمراد بالعلماء العاملون المخلصون .

قال في « لطائف المنن » : وحيثما وقع العلم في كتاب الله عز وجل ، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما المراد به النافع ، المخمد للهوى ، القامع للنفس ، الذي تكتنفه الخشية ، وتكون معه الإنابة ، قال الله تعالى : {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [ فاطر : 28 ] ، فلم يجعل علم من لم يخش من العلماء علما ، فشاهد العلم الذي هو مطلوب الله : الخشية ، وشاهد الخشية : موافقة الأمر ، وأما علم من يكوم معه الرغبة في الدنيا ، والتملق لأربابها ، وصرف الهمة لاكتسابها ، والجمع والإدخار ، والمباهاة والاستكثار ، وطول الأمل ونسيان الآخرة ، فما أبعد من هذا وصفه من أن يكون من ورثة الأنبياء عليهم السلام ، وهل ينتقل الشيء الموروث إلى الوارث إلا بالصفة التي كان بها عند الموروث ، ومثل من هذه الأوصاف وصفه كمثل الشمعة تشيء على غيرها وهي تحرق نفسها ، جعل الله علم من هذا وصفه حجة عليه ، وسببا في تكثير العقوبة لديه ، ولا يغرنك أن يكون به انتفاع للبادي والحاضر ، فقد قال صلى الله عليه وسلم :« إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر » ، ومثل من تعلم العلم لاكتساب الدنيا ، وتحصيل الرفعة بها ، كمثل من رفع العذرة بملعقة من ياقوت ، فما أشرف الوسيلة ، وما أخس المتوسل إليه! ومثل من قطع الأوقات في طلب العلم ، فمكث أربعين سنة يتعلم العلم ولا يعمل به ، كمثل من قعد هذه المدة يتطهر ويجدد الطهارة ، ولم يصل صلاة واحدة ، إذ مقصود العلم العمل ، كما أن المقصود بالطهارة وجود الصلاة ، ولقد سأل رجل الحسن البصري عن مسألة ، فأفتاه فيها ، فقال الرجل للحسن : قد خالفك الفقهاء ، فزجره الحسن ، وقال : ويحك ، وهل رأيت فقيها ، إنما الفقيه من فقه عن الله أمره ونهيه . وسمعت شيخنا أبا العباس رضي الله عنه يقول : الفقيه من انفقأ الحجاب عن عيني قلبه ، فشاهد ملكوت ربه . انتهى كلامه .

فالعلماء المخلصون الذين عرفوا الله من طريق البرهان ، تلي درجتهم درجة الأولياء الذين هم أهل الشهود والعيان ، ثم الصالحون الأبرار ، ثم عامة المؤمنين ، ومن قال خلاف هذا فهو جاهل بمرتبة الولاية ، قال صلى الله عليه وسلم : « عامة أهل الجنة البُلَّه » وعليون لذوي الألباب ، وذووا الألباب هم أهل البصائر ، الذين فتح الله بصيرتهم ، وتطهرت سريرتهم بالمجاهدة والرياضة ، حتى شاهدوا الحق وعرفوه ، وقال تعالى : { فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ } [ الزمر : 17 ، 18 ] ، وراجع ما تقدم في تفسيرها ، وكل من كان محجوبا عن الله ، يتسدل بغيره عليه ، فهو من البله ، إلا أن صاحب الاستدلال أربع من المقلد ، أي : سلم من الوسواس ، وإلا فالمقلد أحسن منه .

ولما تكلم في الإحياء على درجات التوحيد ، قال : « والدرجة العليا في ذلك للأنبياء ، ثم للأوياء العارفين ، ثم للعلماء الراسخين ، ثم الصالحين » ، فقدم الأولياء على العلماء . وقال الأستاذ القشيري في أول رسالته : فقد جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه ، وفضلهم على الكافة من عباده بعد رسله وأنبيائه . ه . سئل ابن رشد - رحمه الله - عن قول الغزالي والقشيري بتفضيل الأولياء على العلماء ، فقال : أما تفضيل العارفين بالله على العارفين بأحكام الله؛ فقول الأستاذ أبي حامد متفق عليه ، ولا يشك عاقل أن العارفين بما يجب لله من أوصاف الجلال ونعوت الكمال أفضل من العارفين بالأحكام ، بل العارفون بالله أفضل من أهل الأصول والفروع؛ لأن العلم يشرف بشرف المعلوم . ثم أطال الكلام في الاستدلال على ذلك ، فانظر . ذكره في المعيار .

وقال بعضهم في تفضيل العارف على العالم : إن العارف فوق ما يقول ، والعالم دون ما يقول ، يعني : أن العارف إذا تكلم في مقام من مقامات اليقين ، كان قدمه فوق ما وصف ، لأنه يسلكه دوما ثم يصفه ، والعالم إنما يصفه بالنعت ، وأيضا : العالم يدلك على العمل ، والعارف يخرجك عن شهود العمل ، العالم يحملك حمل التكليف ، والعارف يروحك بشهود التعريف ، العالم يدلك على علم الرسوم ، والعارف يعرفك بذات الحي القيوم ، العالم يدلك على الأسباب ، والعارف يدلك على مسبب الأسباب ، العالم يدلك على شهود الوسائط ، والعارف يدلك على محرك الوسائط ، العالم يحذرك من الوقوف مع الأغيار ، والعارف يحذرك من الوقوف مع الأنوار ، ويزج بك في حضرة الأسرار ، العالم يحذرك من الشرك الجلي ، والعارف يخلصك من الشرك الخفي ، إلى غير من الفروقات بين العارف والعالم .

ومن اصطلاحات الصوفية ، أن العالم بالأحكام يسمى عالما ، والعالم بالذات عيانا وكشفا يسمى عارفا ، كما في القوت . وبالله التوفيق .

تفسير ابن عجيبة

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية