آخر الأخبار

جاري التحميل ...

كشف الغطاء في طريق الصوفية / ابن خلدون (2)

الكلام في تحقيق طريق التصوف وتميزُه عن الجملة من بين طُرق الشريعة، ومدلولُ هذا اللقب عند من سلف منهم من الأمة.

اعلم، نوّر الله قلوبنا بالهداية، أنّ الله سبحانه فرض على القلوب عملا من الاعتقادات، وعلى الجوارح الظاهرة عملا من الطاعات؛ فجميع التكاليف الشرعيّة الّتي تعبّد بها الإنسان في خاصّة نفسه ترجع إلى نوعين: أحكام تتعلّق بالأعمال الظاهرة، وهي أحكام العبادات والعادات والمتناولات. وأحكام تتعلّق بالأعمال الباطنة، وهي الإيمان وما يتصرّف في القلب ويتلوّن به من الصفات. إما المحمودة كالعفة، والعدل، والشجاعة، والكرم والحياء، والصبر، وإما المذمومة كالعجب، والرياء، والحسد، والحقد، وهذا النوع أهم من الأول عند الشارع، وإن كان الكل مهما، لأن الباطن سلطان الظاهر المستولي عليه، وأعمال الباطن مبدأ لأعمال الظاهر، وأعمال الظاهر آثار عنها، فإن كان الأصل صالحا كانت الآثار صالحة، وإن كان فاسدا كانت فاسدة، قال صلى الله عليه وسلم : "إِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ".

سبحانه خلق في القلب غرائز وقوّى، وكل واحد منهما يطلب مقتضى طبعه الذي خلق له، وجُعل كمالَه وغايتَه في تحصيله، فغريزةُ الغضب تطلب التشفي والانتقام، وفيه كمالُها ولذّتُها، وغريزة الشهوة تطلب اللذةَ بالمأكول والمنكوح، وبالجُملة تحصيل المُلائم. وكذلك غريزة العقل تطلبُ تحصيل العِلم والمعرفة، ولِما ركّب الله فيه من محبة الكمال لا يزال يُتحرك بكل مُتحرِّكٍ فيه إلى تحصيل كماله والفكر خادمَه في جميع ذلك، يُركب ويحلِّل ويجمع ويفصِّل فيتصور عداوة شخصٍ ما، ويُحرِّك الجوارح للانتقام منه، ويتصور جمالُ شخص وكمالُ صورته فيُحرِّكُ الجوارح للالتذاذ به، ويتصوَّرُ غذاءً مُلائِمًا وقد وجد الجوعَ يحرِّك الجوارحَ لتحصيل ذلك الغِداء، ويُتصوّرُ كمالا في شخص فيودُّ انتزاعه وانفراده به ويغتمُّ لذلك، ويُؤسفُه آخرُ فيتصوَّر الانتقامَ منهُ، ويتوسَّمُ الكمالَ في نفسه فيعجبُ بذاته ويزدرئُ غيره لتَوسُّمِ قصورَه بالنسبة إليه. وتطلب غزيرة العقل مقتضى طبعها، وهوَ المعرفةُ والعلم ، فتحرِّكُ الفِكر إلى تحصيله وتشتاق إلى الكمال الأعلى بمعرفة خالقها، ولا ترى موجودًا أكملَ منه، فلا تزال تطَّلِعُ إلى جانبه تصوُّراتٍ وأفكارٍ تتعاقب عليها تَلحمٌ في ذلك تسري وتُعيدُ وتبدو حركاتها في جميع هذه الأمور متواترةٌ مترافقة لا تفتُر طرفةَ عيْنٍ، ولا يلحقها من الكسل والملل ما يلحقُ الجوارحَ والأعضاءَ، وهي منتقلة أسرع من إيماض البرق وحركة الرمال بالريح. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثر في دعائه : يا مقلِّب القلوبْ ويُقسمُ في أكثر أمره لا ومقلب القلوب. وقال صلى الله عليه وسلم : (قلب المُؤمن بين أصبُعين من أصَابعِ الرحمن يُقلِّبها كيف يشاءُ).




التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية