كل ما يضُر القلب من من هذه الغرائز إنّه كمال له ولذّةٌ فهوَ كمال له ولذّة، باعتبار الآجل وحياته الدائمة التي أخبر الشارعُ مجال سعادته فيها وشقاوته، فإنه إنما أدرك الذي في هذه الغرائز باعتبارها عاجله وحاضره، وبقي ما يحصُل في القلب من آثار هذه الأفعال وما يتلونُ به من الهيئات التي تكون له في الآجلِ خيرًا ونعيمًا، أو شرًّا وعذابا، حتى في غريزة العقل بما يحصل فيها من العقائد والتصورات في جانب خالقها. فمنها ما هو مُفض إلى السعادة وحتى منه ما يفضي إلى الشقاء، لا طريق إلى معرفة ما فيه السعادة باعتبار الآجل من الأعمال الباطنة كلها بل والظاهرة إلا الشرعَ، فيبيِّن صلى الله عليه وسلم المحمودَ من المذموم وميَّز الخبيثَ من الطيب، ونبّه على أن شأن الأعمال الباطنة أتم. لا زال الباطن أصل الاستقامة ومنبع الصلاح والفساد لجميع الأعمال كما مرَّ في الحديث ...إن المطلوب من استقامة الجوارح إنما هو حصول آثار الاستقامة في النفس عَوْدا بعْد بَدْءٍ، ثم يتضاعف في التكرار حتى تتمكن منه الهداية وتصدُر عنها الاستقامةُ في جميع أعمالها من غير تكلّف. قال صلى الله عليه وسلم : (إنّ الله لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم ولكن يننظر إلى قلوبكم). ومن هنا كان الإيمانُ رأس الأعمال وأرفع مراتب السعادة، لأنه أرفع الأعمال الباطنة كلها فكيف الظاهر، ثم إن الصحابة رضوان الله عليهم لما شرح الله صدورهم للإسلام، وقبلوا من الهداية ما كانوا فيه على بينة من ربهم، صرفوا الاهتمام إلى أعمال الباطن فكانوا يراعون أنفساهم، ويراقبون خطراتهم، ويحذرون غوائل قلوبهم، وفي هذا كانت أكثر مفاوضاتهم وفزع بعضهم إلى بعض واعتبر ذلك في سؤال عمر بن الخطاب حذيفة رضي الله عنهما، وقد ذكر حذيفة المنافقين وأشار إلى ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنهم، فقال له عمر ناشدتك الله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماني فيهم قال: لا ولست أبرئ بعدك أحدا، فانظر إلى حذر عمر رضي الله عنه من هذا النفاق إذ لو كان مراد عمر وحذيفة بهذا النفاق مدلوله المشهور: هو إظهار الإسلام وإضمار الكفر كما كان في منافقي المدينة وغيرهم لما حذر عمر من ذلك وفزع فيه إلى علم حذيفة، إذ هو يعلم من نفسه أنه مبرأ منه وكيف يخفى هذا على عمر، وكل واحد يعلم من نفسه ما أكن وما أبدى، فالذي حذره عمر صنف آخر من النفاق وهو ما يكون في أعمال الباطن من خفايا المهلكات، تقع فلتة ولا يعلمها الإنسان من نفسه، ويعلمها النبي باطلاعه على القلوب ومعاينته لأعمالها وأسرارها وبما خصهم الله به من ذلك، وساغ إطلاق النفاق على هذا الصنف من الأعمال لما فيه من مخالفة مضمر الباطن لظاهر الدعوى، لأن دعوى المومن الاستقامة، ومَن ظاهرُ حالِه وما يقع من خفيات الفلتات الباطنة الفادحة في الاستقامة وإن لم تقع باختياره فهي مُضمرةٌ في القلب فاشية النفاق من وجه مخالفة باطنه لظاهره فتجوز باسمه إليه، وإن كان مفارقُ النفاق المشهورُ بأن هذا الخفي من العمل المذموم يتفطّن لهُ المكلف إلّا أنه مأمور ببذل الجهد في مراعات أحوال الباطن وحمله على الاستقامة ليستقيمَ به الظاهر وينجذب بالكلية إلى الهداية والسعادة، فإن مسته غفلة أو تَراخ في هذا الواجب المتعسر كان منافقا، وهذا كما أُطلِق اسم الشرك على الرياء لِما فيه من التشريك في الوِجهة بالعبادة، فإن المرائي بعبادته لم تخلُصْ إلى الله وِجهته بَل هو مُتوجِّهٌ مع ذلك إلى المُرائى لهُ، فصار كالمشرك العابد اثنيْن، فساغ إطلاق اسم الشرك عليه كما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم : (الريَاءُ الشِّرك الأصْغَر).