خمرة الحان ورنة الألحان
شرح رسالة الشيخ أرسلان
تأليف : الشيخ عبد الغني بن إسماعيل النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم الحمدلله الذي طهّر قلوب أوليائه بمياه اليقين من دنس الأغيار، ورفع عن وجوه عقولهم قناع الغفلة والاغترار، وألبسهم حلل المعرفة والاعتبار، وما ألبس عليهم آياته البينات في الليل والنهار، والصلاة والسلام على مفتاح خزانة الغيب المطلق، وكشف أسرار العالم المغلق نبينا ورسولنا من حضرة الحق محمد المختار قطب حركة الأدوار وعلى آله الهادين وعلى أصحابه والتابعين إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول أسير الذنوب وإناء النقائص والعيوب عبد الغني بن اسماعيل النابلسي القادري طريقة النقشبندي حقيقة غلب الله تعالى على ذاته بذاته وعوضه عن صفاته بصفاته، هذا شرح أمطرته سموات إلهامي وفاضت به علي في حضرة فتحي بحار التجلي السامي وضعته للرسالة الشريفة بل الجوهرة المنيفة التي قذف بها بحر الفيض الأقدس في العالم الأنفس على لسان الأمجد الأفخم والضرغام الأعظم زبدة الأولياء وخلاصة الأصفياء بركة الإنس والجان سيدي الشيخ أرسلان المنسوب إلى دمشق الشام لكونه نشأ فيها ومات بها عليه رحمة الملك العلام. فيالها من رسالة مشمولة بالأنظار الإلهية معطرة بالأنفاس الطيبة والنفحات القدسية تتألق بروق المعارف من مطالع أفلاكها وتتناثر درر اللطائف من قلائد أسلاكها تنفح في رياضها كمائم القبول فليس من العجائب أني أنشد في وصفها وأقول:
عن أرسلان جاء علم الحقائق ... حيث أهدى رسالة للخلائق
وسقانا بكأسه منه صرفا ... فسكرنا بسائغ الشرب رائق
كل حرف منها يشير لمعنى ... سائق نحوه ذروة المجد شائق
وعليها طلاوة وبهاء .... حيث حازت أسرار كل الطرائق
نفع الله ربنا بهداها .... في طروس كأنهن حدائق
كلمات قد أزهرت بمعان .... كل من رامها لقطع العلائق
وعلينا أعاد من بركات ..... الشيخ ماساق للحقيقة سائق
فدونك شرحا لها يفصح بمعونة الله تعالى عن المرام وينادي على أبواب جناتها بعد الفتح ادخلوها بسلام ، وقد سميته : (خمرة الحان ورنة الألحان شرح رسالة الشيخ أرسلان) والله سبحانه وتعالى ولي الهداية ومنه التوفيق والعناية وهو حسبي ونعم والوكيل والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
مقدمة الكتاب
اعلم أوَّلًا علمك الله تعالى كل خير وحفظك من الزلل في كل وقوف وسير إن الشرك بالله تعالى نعوذ بالله تعالى منه من أقبح الذنوب، وأخبث العيوب، لا يغفره الله تعالى أبداً ،وإن غفر ما سواه من المعاصي يوم الأخذ بالنواصي. قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)، وقال تعالى : ( وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِيمَكَانٍ سَحِيقٍ)، وحكى تعالى عن لقمان عليه السلام أنه قال لابنه وهو يعظه : ( يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) وقال تعالى : ( مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ..الآية) وهذا الشرك المذكور في هذه الآيات مطلق من غير تقييد دون شرك فيشمل الشرك الجلي والشرك الخفي إذ النوعان شرك محقق سواء كان جلياً واضحاً أو خفياً مكتوماً، فإن اعتبرنا في الشرك الجلي ظهوره لصحابه وفي الخفي خفاؤه عن صاحبه، فإن كل شرك في الأرض كذلك لأن المشركين لا يعلمون أنهم مشركون بالله تعالى وإن عبدوا معه آلهة أخرى لتعللهم بأنهم وجدوا على ذلك أبائهم أو قصدهم أن تقربهم تلك الألهة إلى الله زلفى كما حكى الله تعالى عنهم في القرآن العظيم، فهم مشركون ولا يعلمون أنهم مشركون، وإن اعتبرنا في الشرك الجلي ظهوره لغير صاحبه وفي الخفي خفاؤه عن صاحبه أيضا فالشرك عند الله تعالى قسم واحد وإن انقسم على نوعين عند المتكلمين . قال الله تعالى : ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)والعبادة إعتقاد وقول وعمل وأحد نكرة وقعت في سياق النهي فتعم كل معقول ومحسوس فتشمل الشرك الجلي والخفي.
واعلم أن الشرك الجلي هو أن يظهر للعبد أو لغيره اعتقاد أن مع الله رباً آخر يستحق العبادة من الخلق أو مع الله تعالى غيره موصوفاً بصفة مثل صفاته تعالى، أو فعل له كأفعاله تعالى، أو إسم كأسمائه أو حكم كأحكامه، والشِّرك الخفي هو خفاء شيء من ذلك العبد وهو فيه بسبب إستيلاء الغفلة على قلبه فترى الغافل عن معرفة نفسه جازماً بأنه مشارك لله تعالى في الوجود وفي جميع الصفات التي منها السمع والبصر والعلم والحياة والقدرة والإرادة وغير ذلك وفي جميع الأسماء التي منها الحكيم والكريم واللطيف والعليم إلى آخره، وفي جميع الأفعال كالإيجاد للعبادات والإعدام للمخالفات ونحوذلك، وفي جميع الأحكام كالجزم بالحرام والحلال على الأمور الداخلة بانفرادها وتشخصها تحت أحكام القرآن والسنة ومع ذلك هو غافل عما هو فيه منتبه لأمره قاطع بأنه موجود آخر مع الله تعالى موصوف بأوصاف مسمى بأسامي له أفعال وأحكام تصدر منه بحيث أنه إذا انتبه لما ذكرنا فيه وأنصف نفسه بنفسه استيقظ لذلك ونسب مافيه مما ذكرناه لله تعالى بطريق الإجمال وهو مصر في نفسه على عدم ذلك جهلا منه بكيفية إيقاع النسبة بمنزلة من أختبأ من عدوه في مكان فجاء عدوه يطلبه فلم يجده فخاف ان يجده فقال له أنا في غير هذا المكان فسمع كلامه العدو فأخذه وهو لايشعر بأنه يعلمه بكلامه، وكذلك هذا يرى ما قلنا له أنه فيه ويتخيله ثم ينفيه عن نفسه بنفسه فيثبته في حالة نفيه ولا يشعر حتى يسلم لله رب العالمين، ولو شعر وأسلم لله رب العالمين فقد أشرك أيضاً شركاً خفياً عنه وهو لايشعر حتى يسلم لله رب العالمين، وهكذا دائماً أبداً حتى يشعره الله تعالى لا يشعر هو بنفسه، وحتى يسلمه الله تعالى له لا هو يسلم لله تعالى بنفسه، وحتى يحصل فيه ذلك في نفسه من الله تعالى لله تعالى لا هو يحصل ذلك من نفسه بنفسه وحتى يجد ذلك في نفسه لايوجده هو بنفسه. قال النبي صلى الله عليه وسلم : (تعرضوا لنفحات الحق فإن لله تعالى في أيام دهركم نفحات).