خَلقَ نور نبينا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم وجسَّمه فجعل له صورة روحانية كهيئته التي وُجد عليها في الدنيا وسماها في الأزل، فنوره صلى الله عليه وسلم المذكور أول مخلوق على الاطلاق، ثم خَلقَ جوهرا فمزجه وأدخله في نوره صلى الله عليه وسلم المذكور ليكتسب منه التشريف، ثم استخرجه بعد ذلك ثم نظر إليه فانشق الجوهر نصفين من هيبة المتجلّي، ثم نظر إلى أحد الشقين فصار ماءً مُذابًا، ثم نظر إلى الشِّق الآخر فخلق منه عشرة أشياءً : العرشَ ثم الكرسيَّ ثم اللوح ثم القلم ثم الجنة ثم الشمس ثم القمر ثم الكواكب ثم الحور ثم الملائكة، ثم خلق من بقية ذلك الجوهر شجرةً سماها شجرةَ اليقين، ثم وضع روحَ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم على تلك الشجرة، ثم خلق مرآةً سماها مرآةَ الحياة، ثم خلق قنديلًا من نور فعلَّقه بسلاسل من نور ثم أمر روح سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن يَتخد ذلك القنديلَ مَسْكَنًا، فاْتَمرَ الروحُ بأمر الله تعالى فجعل يسبِّح الله بكل اسم من أسمائه الحسنى، فمكث في كل اسم ألف عام فلما بلغ إلى اسم الرحمن عرِق استحياءً من الله تعالى فقطرت منه قطرات، فخلق الله من كل قطرة من العرق رُوحًا من أرواح الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام. ثم لما وصل إلى اسم الله القهار عرِق من سطوة أي من غلبته عرقا على عدد جميع الأرواح من المؤمنين والكافرين، وصُفَّت الأرواح صفوفا أربعة، أرواحُ الأنبياء ثم الأولياء ثم سائر المؤمنين من العُبّاد والزُهّاد، ثم أرواح الكفار ثم جعل يبعث كلّ روح من عالم الأرواح إلى جسدها في عالم الأبدان لِتَتَّجِرَ فتكْتَسِبَ الكمالات. فهنيئًا لمن ربحت تجارته ويا خسارة نفسٍ في تجارتها لم تَشْتَرِ الدّينَ بالدُّنيَا ولَمْ تَسُمِ. وجعل سبحانه بدن سيدنا آدم عليه الصلاة والسلام مفتاحًا لنَشأتهِم العُنْصُريَّة أي الجسمانية، كما جعل روحَ سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم مفتاحًا لنشأتهم الرّوحانيّة، فمحمدٌ صلى الله عليه وسلم أوّل الآباء روحًا، كما أن آدم عليه الصلاة والسلام أول الآباء جِسمًا، انتهى. ولله در القائل :
فما آدم ألّا أبو الخلق صورة وأنت له الأصلُ المقدم في المَجْدِ
فتبين أن أول المخلوقات على الإطلاق النورُ المحمدي، ثم بعده الجوهر الذي هو مادّة باقي المخلوقات وإلى ما نقلناه عن أنوار المشكاة صاحب المواهب بقوله : لما تعلقت إرادته تعالى بإيجاد الخلق أبرز الحقيقة المحمدية من محض النور قبل كل شيء من المخلوقات، ثم سلخ منها العوالم كلها ثم انبجست منه صلى الله عليه وسلم عيون الأرواح فظهر بالملإ الأعلى أصلا ممدا للعوالم كلها. وحيث كان نبينا صلى الله عليه وسلم بهذه المثابة وهذه المنزلة من الفضل العميم، فحقّ علينا أن نحتفل في عمل مولده الشريف المنبئ عن كمال قدره المنيف ليزداد القلب إيمانا به ومحبة له صلى الله عليه وسلم، وقد قال الإمام الجليل الشمس بن الجزري : أن مما جرب أن عمل مولده الشريف أمان لفاعليه في ذلك العام، وبشرى عاجلة بنيل البُغية والمَرام، وما قرئ في مكان إلّا ونزلت فيه البركات، وفي شدّة إلّا وفرّجها الله من سائر الجهات، ولو لم يكن في ذلك إلّا إرغام الشيطان وسرور أهل الإيمان لكفى. وإذا كان أهل الصليب اتخدوا ليلة مولد نبيهم عيدا أكبر فأهل الإسلام أولى من العجم فهذا زمانه فمن أدركه واتبعه أصاب حاجته ومن أدركه وخالفه أخطأَ حاجته.