آخر الأخبار

جاري التحميل ...

كتاب : مولد كريم (4)


ولوضعه صلى الله عليه وسلم في يوم الاثنين وفي شهر ربيع الأول حكمة بديعة، وذلك أنه ورد أن الأشجار خلقت يوم الاثنين، وبها تَطيبُ نفوسُ بني آدم وأحبابُهم فولدَ فيه ما تحصُل به حياةُ أرواحهم ويُرحمون به، وفي ربيع الأول أيضا تفاؤل بالنسبة إلى اشتقاقه ، فإنه مشتق من الرَّبْع، وهو العَطْف بالرفق والكف عن الشَّررَة، وقد قال أبو عبد الرحمن الصِّقِلّي : "لكل إنسان من اسمه نصيبٌ وكذلك مُسَمًّى من غير الانسان من اسمِهِ نصيب". قال الشاعر :

وقَلَّ إن أبصَرَتْ عيناكَ ذا لقبٍ      إلّا ومعناهُ إنْ فكَّرتَ في لَقبِهِ

ولمّا جاء المبشِّر إلى جدّه عبد المطلب بولادة آمنة لهُ صلى الله عليه وسلم، فرِحَ بذلك فرحًا عظيمًا، وقام هو ومن كان معه من أشراف قومه حتى دخل على آمنة، وكانت وضعته صلى الله عليه وسلم تحت بُرْمَةٍ أي قِدْرٍ كفاته عليه كما هو عادةُ العرب فيمن يولدُ من قريش ليلًا، وأرادت أن يكون جدُّه أوَّلَ من يراهُ، فوجدت البُرْمةَ قد انقلبت عنه فرقتين، وإذا هو في شق أي فتح بصره ينظر إلى السماء، فأخبرت أمّه جدَّهُ حين دخل عليها بما رأت من ذلك وبما رأت حين حَملَتْ، وقولِ المَلَكِ لها إنك قد حملتِ بسيد هذه الأمة، : "فقال احفظيه فإني أرجو أن يصيب خيرًا"، وفي انفلاق القِدْر عنه إشارةٌ إلى ظهور أمرهِ وانتشارِهِ، وأنه يفلِق ظلمةَ الجهل ويزيلها، أو إلى أنه ليس بينه وبين الملإ الأعلى حجاب.

وقد شهدت بنبوته وأخبرت بمولده صلى الله عليه وسلم الأحبارُ والرهبانُ، من ذلك ما رُوي أنه كان يمرُّ الظَّهران موضع على مرحلة من مكّة الآن بوادي فاطمة راهبٌ من أهل الشام يقال له عيصَا، وكان قد أتاه علما كثيرا، وكان يلزم صومعةً لهُ ويدخل مكة أحيانا فيلقى الناس ويقول : "إنه يوشك أي يَقرُبُ أنه يولد فيكم يا أهل مكة مولود تَدين له العرب". ولم أراد الإله ظُهورَ شمسِ الحقيقةِ المحمديّة المقدار من مطالع الخفاء والأستار، أمر الأمين جبريل بقبض الطينة من المحل المكين الذي هو أشرف السموات وما فيها والأرضين؛ فأخدها وولج بها جنانَ الاطاعةِ والتسليم، واقفا بها بين يدي العلي العظيم، بعد غمسها في أنهار السعادة والتّقا، ثم في بحار البشرى بالظهور والبقاء، ثم تجلى عليه الحق سبحانه فانتقلت من طور الطين على هياكل النور، ولم يزل من قَبْلِ خَلْقِ آدمَ والكائنات ذاكرًا مَنْ مَنَّ عليه بالظهور، وأُلهمَت الملائكة ذلك التسبيح فلم تبرح تَحْذوا حذْوَهُ بلسانٍ طلِقٍ فصيح، فوُضِعَ في طينة آدم فكان له روحًا وحياة، فوقعت الملائكة سُجَّدًا له على صورة الركوع لا على الجِباه، وأُهبِط في صُلبه إلى الأرض، وبه كان خليفةً في طولها والعرض، وحُمِل في السفينة في صُلْب نوحٍ الجليل، وبه أُعيذَ من النار الخليل، وببركته فُذِي بالذَّبْحِ العظيم إسماعيل، ويعقوبُ وموسى وهارونُ وكافةُ الأنبياء، هو الرسول إليهم والدليل، ولم يزل ساريا في أسارير غُرَرِ السّراة ذلك النور، إلى أن أذن الله بإبرازه في مظاهر الظهور، فنُشِرتْ أعلامُ الفُتُوَّة على أبيه عبد الله، ونودِي من قِبَل الحق تَهيَّأْ لِما سيبرُزُ منك من نور الله، فأنكحتهُ القدرةُ الباهرة للعقول، مخطوبتَه من غير سِفاحٍ آمنة المأمونَة سُلالَةَ الفُحول، فظهرتِ الأنوارُ ساطعةً في حُرِّ وجهها، وتمكنت النطفة المحمدية في عرصات رحمها، واستبشرت الكائنات بوُفودِ نجائب السرور، وابتهجت المخلوقاتُ بسَحِّ سَحائبِ غيثِ الحور. ولما ولد صلى الله عليه وسلم، برز نظيفا طيبا كحيلًا دهينًا مقطوع السُّرَّة، مختونا أي برز عل هذه الهيئة . ويؤخد من مجموع أحاديث أنه صلى الله عليه وسلم وقع على ركبتيه واضعا على الأرض كفَّيه، ثم قبضَ أصابعه ما عدا السبابة فإنه أشار بها كالمسبح المبتهل، وخرج معه نور أضاء له المشرق والمغرب، وقبضَ قبضةً من تراب، ورفعَ رأسه وبصره إلى السماء ثم سجد. وفي قبضه من التراب إشارة كما قيل إلى أنه يغلب أهلَ الأرض ويملكهم، وأنه ينثُره في وجوه أعدائه فيهزمهم. وفي معنى ذلك ما عُبِّرَت به رُؤيا جدِّه عبدِ المطلب، وذلك أنه رأى كأنّ سلسلةً من فضة خرجت من ظهره، ولها طرَف في السماء وطرف في الأرض وطرف بالمشرق وطرف بالمغرب، ثم عادت كأنه شجرة على كل ورقَةٍ منها نور، وإذا أهلُ المشرق وأهل المغرب يتعلقون بها فقصّها، فعُبِّرت أي فُسِّرَتْ له بمولود من صُلْبِه يَتْبَعُه أهل السماء وأهل الأرض. وفي رفع رأسه وبصره إلى السماء، إشارة إلى عُلُوِّ مقامه صلى الله عليه وسلم دائما وأنه لا يتوجه قصدُه إلّا إلى العُلُوّ وإلى هذا أشار صاحب الهمزيَّة بقوله :

رافعًا رأسَهُ وفي ذلك الرفع إلى كل سُؤدَدٍ إيماءُ 
رامقًا طرفُهُ السماءَ ومرمَى عينِ مَنْ شَأنَهُ العُلُوُّ العُلاءُ

وفي سجوده صلى الله عليه وسلم عند وضعه، إشارة إلى أنَّ مبدأ أمره على القرب من ربه قُربَ مكانةٍ لا مكان، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرًا. قال الله تعالى : ( وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ). وقال صلى الله عليه وسلم : (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد). وأشار بعضهم إلى هذا المعنى بقوله : 

لك القرب من مولاك يا أشرف الورى
وأنت لكل المرسلين ختامُ

انتهى



التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية