منقول عن مخطوطة
كتاب : مولد مبارك
تأليف : الهبراوي أحمد بن محمد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أَطْلعَ في سماءِ الأزَل شَمسَ أنوارِ مَعارِفِ النُّبُوَّةِ المُحَمَّديَّة، وأَشرَقَ من أفُقِ أسرارِ الرّسالَةِ مَظاهرَ تجلّي الصِّفاتِ الأحمديَّة، أحمدُهُ أَنْ وضَعَ أساسَ نُبُوَّتهِ على سوابِقِ أزليَّتهِ، ورفعَ دعائمَ رسالَته على لَواحقِ أَبديَّته، وأشهدُ أن لا إله إلاّ اللهُ الفردُ المنفردُ في فردانيَّتِه بالعظمة والجلال، المتوحِّدُ في وحدانيته باستحقاق الكمال، وأشهدُ أنَّ سيدنا وحبيبَنا محمَّدًا عبدُه ورسوله أشرفُ نوع الإنسان، وإنسانُ عيون الأعيان، المستخلصُ من خالص خُلاصة وَلَدِ عدنان، الممنوحُ ببدائع الآيات المخصوصُ بعموم الرسالة وغرائب المعجزات، السرُّ الجامعُ الفرقاني المخَصَّصُ بمواهب القرب من النوع الإنساني، مَدَّةُ مِدَادِ نُقْطَةِ الأَكوان ومَنْبَعُ يَنَابيع الحِكَمِ والعرفان، مَنْ شَخَصَتْ أبصارُ سُكّان سِدرة المنتهى لجلال جماله، وحنّت أرواح رُؤساءِ الأنبياء إلى مشاهدة كماله، اشتاق القمرُ لمشاهدته فانشقّ فشق مرائرَ الأشقياء المُشاققين، وحنّ لمفارقته الجِدع فتصدع فانصدعت قلوبُ الأغبياء المنافقين، وبرَقَتْ من مِشكاة بِعثته بوارِقُ طلائعِ الحقائق، ولم يزل يجاهدُ في الله بصادق عَزَماتِه وينظِم شتاتَ الأمرِ بعد افتراق جِهاته حتى كَمُلت كمالاتُ دينه وحججه البالغة، وتمّتْ على سائر أُمَّتِه الأمِّيَّة نِعَمُه السابغة، فهو الشاهد المشهود صاحبُ الحوض المورود واللواءِ المعقود، واصَلَ اللهُ عليه فضائل الصلوات وشرائف التسليم ونوامي البركات وعلى آله الأطهار وأصحابه الأبرار صلاة وسلاما لا ينقطع عنهما إمدادُ المَدَدِ، ولا يحصيها العددُ أبد الآبد آمين.
أمّا بعد : فإنَّ شهر ربيع الأوّل اختص بِمَنْقَبَةٍ عظيمةٍ، فاق بها سائر الشهور، وفاز بكرامة كبرى. صار مذكورًا بها على ممرِّ الدّهور، ولله درّ القائل في هذا المعنى :
لهذا الشهر في الإسلام فضل ومَنْقَبَة تفوق على الشهور
فَمَوْلُودٌ به واسْمٌ ومعنًى وآياتٌ بَهَرْنَ لدى الظهور
ربيعٌ في ربيعٍ في ربيعٍ ونورٌ فوقَ نورٍ فوق نور
وتلك المَنقَبَة التي اختص بها هذا الشهر هي الظهورُ فيه لسيِّد المرسلين والولادةُ فيه لأفضل الخلائق أجمعين.
الذي كان وجوده وظهوره رحمة للعالمين وقامعًا للمعتدين مَنْ لا يُمْكِنُ حَصْرُ صفاتِه الظاهرةِ والباطنةِ وشمائلِهِ وتَعْجِزُ القُوى عن استيعاب ذلك بدلائلِ. ولله در القائل :
الأمر أعظم من مَقالة قائلٍ إنْ رَقَّقَ البُلَغاءُ أوْ إنْ فَخَّمُوا
ماذا تقول المادِحونَ ومَدحُهُ حقًّا بهِ نَطَقَ الكِتابُ المُحْكَمُ
قال الله تعالى مُنَوِّهًا بشأنِ نبيِّه الكريم عليه أفضل الصلاة وأتَمُّ التسليم : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) وحكي عن العارف بالله تعالى سيدي عمر ابنِ الفارض نفعنا اللهُ به أنّه رؤي بعد موته في المنام فقيل له : لِمَ لا مدحتَ النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال مُجيبًا عن ذلك :
أرَى كلَّ مَدْحٍ في النبيّ مُقَصِّرًا وإن بالغَ المُثْنِي عليه وأكْثَرَا
إذ الله أثنى بالذي هو أهله عليه فما مِقْدَارُ ما تَمْدَحُ الورى
هذا وإن كان وجود جسمه الشريف صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول فخلق حقيقته وروحه الكريمتين صلى الله عليه وسلم مُقَدَّمٌ على خلْقِ الأنبياءِ وسائر الموجودات فقد قال صلى الله عليه وسلم : (كنتُ أوّلَ الأنبياء وسائِر الموجودات) فقد قال صلى الله عليه وسلم : (كنتُ أوّل الأنبياء في الخلق وآخرهم في البعث) وقال صلى الله عليه وسلم :(إنّ الله عزّ وجلّ كتَب مقادير الخلق قبل أن يَخلُقَ السماواتِ والأرضَ بخمسينَ ألفَ سَنَةٍ وكان عرشُه على الماء) ومن جملة ما كَتَبَ في الذّكر وهو أمُّ الكتاب إنَّ محمّدًا خاتم النبيين وقد قيل : أوَّلُ شيء كَتبَ القلمُ في اللوح المحفوظ بسم الله الرحمن الرحيم إنّي أنا الله لا إله إلّا أنَا محمدٌ رسولي، مَنْ استسلم لقضائي وصبرَ على بلائي، وشكر على نَعْماَئي ورضيَ بحُكمي كتبتُه صِدّيقًا وبعثتُه يومَ القيامة من الصدّيقين) وقال صلى الله عليه وسلم : (إنّي عند الله لخاتم النبيين وإنّ آدمَ لَمنجذل في طينته) يعني طريحًا ملقى على وجه الأرض قبل نفخ الروح فيه. وعن مَيْسَرَةَ الضبي رضي الله عنه أنه قال : (قلتُ يا رسول الله متى كُنتَ نبيًّا ؟ وفي رواية : متى كُتِبْتَ نبيًّا ؟ من الكتابة وفي أخرى : متى وَجَبَتْ لك النبوّة ؟ قال : وآدم بين الروح والجسد) ويرحم الله القائل :
سَبقَتْ نبوتُه وآدم طينة فله الفَخَار على جميع الناس
سبحان من خصَّ النبيَّ مُحمَّدًا بفضائلٍ تُتلى بغير قياس
ومعنى وجوب النبوة له صلى الله عليه وسلم وكتابتها على الروايتين المتقدمتين ثبوتُ النبوة وظهورها في عالَم الأرواح للملائكة الكرام ليَتبيَّنَ لهم عظيمُ شرفه صلى الله عليه وسلم وتمام الرٍّفعَةِ وتميُّزهُ عن بقية الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام وخُصَّ الإظهار بحالة كون آدم بين الروح والجسد لأنه أول دخول الأرواح إلى عالم الأجسام والتمايز حينئذٍ أتم وأظهر. فاختص صلى الله عليه وسلم بزيادة إظهار شرفه صلى الله عليه وسلم حينئذٍ ليتميز عن غيره أعظم تمييز، فعلم مما تقرر أن الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم كنتُ نبيا، إلى روحه الشريفة الطاهرة صلى الله عليه وسلم، والمراد أن الله تعالى جعله حقيقة لا يعلمها إلّا هو، ومَنْ خصّهُ بالاطلاع عليها، وأفاض عليها وصف النبوة من ذلك الوقت، ويؤيد هذا المرادَ ويُوضّحهُ ما ذكره صاحب أنوار المشكاة مرويا عن سيدنا علي رضي الله عنه وكرم وجهه وحكاه عنه العلامة الشبرامَلسي في حاشيته على المواهب ونصه مع بعضَ التصرف : لما أراد الله تعالى أن يخلق الخلق بعد أن لم يكن شيء غيره وهذه هي الحضرة الأحدية المشار لها بقوله تعالى في الحديث القدسي : (كنتُ كنزا مخفيًّا لا يعرفني أحد فأحببتُ أن أُعرَف فخلقت خلقا فتَعَرَّفْتُ إليهم فبي عرفوني).